“سنوات الجمر” و جدلية التدمير والانبعاث

0 216

بقلم: د. علي السعدي

شكل العراق وما يزال، ميداناً رحباً لظهور العديد من التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية الإسلامية، ابتداء من بواكير النصف الثاني للقرن العشرين وما قبلها، وقد لعبت هذه الحركات أدواراً تفاوتت أهميتها في رسم خريطة الأحداث التي شهدها العراق، فبعضها كان لافت الظهور والتأثير، وبعضها كان أقل ظهوراً أو حتى هامشياً وإن تميز معظمها بأنه كان دائم التصادم مع السلطات الحاكمة على اختلافها. وبرز ذلك التصادم في ذروة عنفه ودمويت، بعيد وإبان قيام الحكم الجمهوري عام 1958م واستمر متواصلاً حتى الأيام الأخيرة من عهد «البعث». اليوم فإن الحركة الإسلامية بمسمياتها وانتماءاتها المتعددة، تقدم نفسها باعتبارها العمود الفقري الذي يرتكز عليه البناء السياسي في العراق المقبل، فما هي صورة المستقبل التي تقدمها هذه الحركات ربطاً بتاريخها الحديث؟ وأي قدرات وإمكانيات تمتلك في هذا الجانب؟
هذا ما حاول الإجابة عليه الباحث في الشأن الإسلامي السيد علي المؤمن في كتابه «سنوات الجمر» وهو كناية عن إضافة نوعية، شملت جانبي التوثيق والتحليل لموضوعات ما زالت حية ومتفاعلة في الوقائع اليومية للحياة العراقية.
القيمة العلمية لأيّما كتاب، إنما تتحدد بصدقية الوثيقة المعتمدة، وتحرر القراءة من ضغط الانحياز المسبق وسطوة الانتماءات الأيديولوجية، وهذه بدورها تخضع لطبيعة المنهجية المعتمدة في تناول الموضوعات، وبالتالي مجموع الأحكام والاستنتاجات التي جرى استخراجها كمحصلة عامة، فهل تم الاحتكام لهذه المعايير؟
يمكن الدخول إلى موضوعات الكتاب من اتجاهات متعددة، لكل منها زاوية تحصيله ورؤيته الخاصين، وانطلاقاً من أسئلة يثيرها بحث توثيقي تناول تجربة تنظيمات وأحزاب، كان لها وما يزال دور بارز في مختلف الميادين والساحات العربية نظراً للعلائق التي ربطت الحركات الإسلامية بعضها ببعض.
أما أسئلة المدخل، فهي المتعلقة بمقدار ونوعية المعلومات التي أضيفت على التاريخ الموثق للحركة الإسلامية في العراق؟ والكيفية التي أخضعت من خلالها المصادر والوثائق المعتمدة، إلى المساءلة والتدقيق؟
لقد بذل الكاتب ملحوظاً في البحث والتنقيب عن مصادر عديدة، قراءة وفهرسة واستخلاصاً، لذا جاء كتابه مرجعاً على قدر من الأهمية في ما خصّ الشأن الإسلامي المتعلق بالساحة العراقية والمسار الذي انتهجته أحزاب وتنظيمات اتخذت من الإسلام منهجاً فكرياً وعقائدياً عاماً. وكان من الأفضل لو لجأ الكاتب في الفصول التمهيدية، إلى إيضاح الاختلافات بين البنى التنظيمية لكل من الحزب والحركة والجبهة، والمراحل التي تحتم قيام كل نوع من هذه البنى، ليصار من ثم إلى الشكل التنظيمي الأنسب الذي كانت تتبعه فصائل الحركة الإسلامية قياساً بالظروف المحيطة آنذاك وطبيعة المهام المطلوب إنجازها. ولكل من هذه البنى علاقة مباشرة باللوائح الداخلية ومفهوم العضوية والمرتكز الفكري والهرمية القيادية وكيفية تحديدها وصلاحيتها والمهمات المطلوبة منها، الخ. مما له من انعكاس مباشر على مسار الحركة ككل، لكن الكاتب اعتمد التسمية كما هي من دون وضعها تحت مجهر القراءة المدققة، كذلك المرور عبر الكثير من القضايا الجوهرية التي كانت تستأهل وقفة وتفنيدا قبل الوصول إلى النتائج المتحصلة والتي بدت كأنها حضرت مسبقاً من دون عهد للكاتب في تثبيتها أو دحضها. فعلى سبيل المثال، أعاد ظاهرة المد والجزر في الحركة الإسلامية (ص 28) إلى عوامل منها «ضعف الوعي السياسي الشعبي ووجود بعض الانتهازيين والنفعيين وامتلاء الساحة بالشخصيات الهجينة والمرتبطة بالخارج»، الخ.
إن استخدام هذه المقولات، من دون اعتبار للتبدلات التي يمكن أن تكون قد طالتها وبالتالي جعلت لها مدلولات أخرى، ستثير أكثر من التباس. فالوعي السياسي يتطلب المرور بمرحلة أولية تسمى بالحس السياسي، أي إن الشعب بدأ يدرك ضرورات التغيير وإمكانية حصوله، أما الانتقال إلى مرحلة الوعي السياسي فهي تبدأ احتساباً من البحث عن وسيلة لإحداث التغيير والتي ستبقى في حالة من التطور والتوسع المتلازمين، طردياً حيناً وعكسياً أحياناً أخرى على صعيد الكم والكيف والفكر والممارسة، إلى حين حصول التغيير المنشود، لتتخذ من ثم مسارات أخرى، وهكذا في عملية تفاعلية ودينامية متواصلة، ومن هذه الحيثية يأتي إنشاء الحزب كمؤشر متقدم لانتقال الحس المجرد إلى الوعي الفاعل.

لكن الحزب لم يعد هو الممثل للطبقة أو الطليعة المتقدمة منها، كما يراه الماركسيون، ولا هو جموع مجاهدة نذرت نفسها لإعلاء كلمة الحق كما عند الإسلاميين، وبالتالي لم يعد تعريف عضو الحزب يتلاءم والتعريفات السابقة للتنظيم الحديدي والهيكلية المركزية الصارمة، بل هو ذلك التجمع الذي تتفاعل في داخله شتى التيارات والآراء الفكرية والسياسية المتفقة على أهداف مرحلية عامة، وهذه الصفة كانت في الغالب تميز التنظيم الحركي أو الائتلاف الجبهوي وإن لم يكن ذلك منظوراً في تنظيماتنا المعاصرة.
وفي موضوع الأصالة والهجانة والنفعية والارتباط بالخارج وسواها، فهي أيضاً بحاجة إلى بحث أكثر عمقاً، لرؤية قدرتها أو تمكنها من التأثير على مجريات الأحداث كما وقعت في الفترة موضوع التناول ومن ثم تعريضها للمفاهيم والمنهجية الحديثة في القراءة والبحث.
أما عن قضية التغيير والإصلاح والفارق في النظرة إليهما بين الحركات السنية والشيعية (ص 30 ـ 32)، فهي ليست مسألة عابرة يمكن تجاوزها، إذ إنها تشكل جوهر الفكر السياسي في كل من الحركتين، فالتغيير والإصلاح، مفهومان مختلفان جذرياً من ناحية المحمول واشتقاقاته الفكرية والتطبيقية على حدّ سواء، نستدل على ذلك من قراءة متأنية للسياق التاريخي لكل من الاتجاهين. فالحركات الشيعية، اتخذت طروحاتها مقولة «الإصلاح في الأمة والتغيير في السلطة» إذ لا يمكنها أن تكون من دعاة الإصلاح السياسي لنظام الحكم، لأن ذلك يفترض حصوله من داخل مشروع الدولة ذاتها، ولما كانت الحركات الشيعية على تصادم تاريخي مع الدولة، لذا فكلمة «إصلاح» لا تعبّر عن معنى دقيق للكلمة، عكس الحركات السنية التي يمكنها طرح مسألة الإصلاح دون التغيير بالضرورة، كونها منخرطة في مشروع الدولة انطلاقاً من مسائل فقهية وفكرية معاً. فعلى الصعيد الفقهي تستوجب طاعة الحاكم الذي قويت شوكته، وهي لا تشترط الخروج على الحاكم إذ لم يثبت خروجه عن الإسلام، وكشكل عام يمكن القول أن الإصلاح بحاجة إلى بنية حركية، فيما يتطلب التغيير بناءاً حزبياً مع ملاحظة خضوع هذه القاعدة لاعتبارات تبعدها عن الإطلاق والتعميم.
يشير عنوان الكتاب إلى ما يفترض أنه مسيرة شاملة قطعتها الحركة الإسلامية ككل، ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي حتى تسعينياته، ولكن الفصول اللاحقة تركز على حزب الدعوة كموضوع رئيسي، فيما أفرد للحركات الأخرى، صفحات بدت أقرب إلى الهوامش أو الملحقات، وربما لعبت التجربة الشخصية للكاتب دوراً في ذلك حيث كان لحرارة الأحداث وقعها المؤثر على منهجية الكتاب، لغة وتناولاً وسياقاً. فاللغة بدت متسارعة بشكل تحاول فيه اللحاق بإيقاعات الحدث وهي مسكونة بهاجس تبعثر أو انفلات بعض التفاصيل الحيوية المهمة، وكأن الكاتب ما زال ملاحقاً، لذا فهو يستعجل تدوين الوقائع كوثائق إدانة ممهورة باليقين، تاركاً لمن يأتي بعده مهمة المساءلة والتدقيق.
وقد يعذر الكاتب، نظراً لاستثنائية الظروف التي كتب بها بحثه، حيث الأولوية لتدوين الحدث، وهذا ما ينسحب بدوره على التناول والسياق، فقد جاءت الأحكام قاطعة ومتخندقة في الجانب التبريري من جهة، والإدانة من جهة أخرى، لكل من الطرفين المتصارعين الحركة الإسلامية والسلطة ومع ذلك كان بإمكان الكاتب إعطاء الأحكام حقها في تفاصيل مقنعة، فالاشتراكية كانت مفهوماً اقتصادياً ثورياً حينها، وكانت مرادفاً للتحرر من الهيمنة الرأسمالية الاستعمارية في أهم جوانبها. والقول بأن «الاشتراكية مفهوم لم يهضمه المجتمع العراقي» (ص 72) بحاجة إلى براهين وأدلة، في مستوى النظرية وعلى صعيد التطبيق كي يستقيم الحكم بالصورة التي جاء بها.
وعن مواقف المرجعية والحركة الإسلامية من الإجراءات التي اتخذها النظام، خاصة المتعلقة بمحاولات تحديث المجتمع العراقي، يخرج القارئ باستنتاجات تضع الطرف الإسلامي في موقع الاتهام، فالإسلاميون والمرجعية ظهروا في موقع المناهض للتطور على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، إذ تحالفوا مع الإقطاع وشيوخ العشائر على حساب الفلاحين، برز ذلك حين طالب السيد الحكيم، بإلغاء الاشتراكية التي كانت ترتبط بقانون الإصلاح الزراعي (73)، وبغض النظر عن فشل أو نجاح هذا القانون، فمن الصعوبةُ تبرير القول بأن تمليك الأرض للفلاحين، هو قانون جائر كذلك لم يبذل الكاتب جهداً كافياً لتوضيح كيف تحولت حملة «محو الأمية» إلى محاولة لمحو الثقافة الإسلامية والشعور الديني لدى الكبار (ص73) قطعاً لا يعني الكاتب، إن الشعور الديني مرتبط بالجهل.

لقد فتحت مواضيع الكتاب، المجال للإتيان بعمل متميز في الكفر السياسي، منها مثلاً، علاقة الفكر السياسي الشيعي العراقي بصفة خاصة بموضوع الدولة والقدرة على إدارتها، أو بموضوع الانقلابات العسكرية والأسباب التي دعت مرجعية السيد الحكيم إلى الحذر منها (ص 94)، هل كانت نابعة من النظرة إلى دور المؤسسة العسكرية تاريخياً؟ وهل لذلك علاقة بمفهومي مؤسسات الدولة الأكثر قابلية للثبات، وأدوات الثورة التي تتصف غالباً بالتذبذب وعدم الثبات؟، وهو ما يفرز كل بدوره أنماطاً فكرية وسلوكية مغايرة، فالدكتاتورية تتشكل وتنمو في بينة سياسية واجتماعية تكون «الأداة» وسيلتها الرئيسية، لأن «الأداة» حزباً أو حركة حين تنجز مهمتها في الوصول إلى السلطة، ستجد نفسها أمام خيارين: الارتقاء إلى مؤسسة، أو الارتداد لتدمير الذات وما حولها، وفي كلتا الحالتين تفقد خاصيتها الأولى، أما المؤسسة، فهي من علائم رسوخ الدولة وتبادلية الحكم، من هنا فإن تاريخ العراق بأكمله تقريباً، إنما حكمته الأدوات، وليس في بنية الحركة الإسلامية باختلاف فصائلها ما يشير إلى أنها ستسلك طريق بناء المؤسسات عند استلامها مقاليد السلطة.
في جانب آخر فإن استخدام عبارة من نوع «إن الحركة الإسلامية سعت بعد انقلاب البعث إلى مدّ الجسور مع الأخوة السنة» في الشيعة وحدهم، وهو ما يتعارض ومضمون التسمية كما عنونها مطلع الكتاب.
لا شك أن «سنوات الجمر» قد رفد المكتبة العربية بمرجع قيم لكل المهمتين بدراسة الحركة الإسلامية في العراق، التي ما يزال الكثير من شؤونها مجهولاً، وربما كان فهرسة لعناوين أخرى تصدر تباعاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) علي السعدي: كاتب عراقي. والمقال منشور في جريدة السفير اللبنانية، 2004

اترك رد