في رؤية علي المؤمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: د. غالب أبو زينب(*)
«النظام السياسي الإسلامي الحديث»، عنوان يبحر فيه الأستاذ علي المؤمن لمقاربة إشكاليات بقدر ما هي معاصرة بقدر ما هي تحمل في طياتها جدليات متعددة تؤرق الباحثين والمثقفين في الأمة الباحثة عن خلاص آن له أن يأتي، وإذ تحمّل كاتبنا هذه المهمة برضى وشغف وإقبال فإن اندفاعه الأقوى إنما تشكل من خلال بحثه الدؤوب عن تقديم إجابات مقنعة وعملية ترفد وتحصن هذه التجربة الفريدة في عالمنا المعاصر، دون أن يعني ذلك تخليه عن العملية والموضوعية في مقاربته للأمور، فحياده العلمي ومحاولته تقديم الأمور من زواياها المتعددة مع غزارة استوجبت جهداً في تنوع المصادر وتكثيفها كماً ونوعاً، جعل الإطلالة أكثر شمولاً والمطالب أكثر وضوحاً.. ولعل ما يستكمل هذا المنحى هو سلامة الكتابة وانسيابها لتكاد تلتقط أنفاسك وتجهد في ترك القراءة مكرهاً.. وإذ كان الإمعان في قراءة هذا السفر مطلباً نحن بصدده، فإن أول الأمر هو الاعتراف بالتواطؤ مع كاتبنا لأسباب كثيرة قد يكون بين أولها وآخرها مشاطرته الرأي في اعتقال ولاية الفقيه ورؤيتها كنموذج إسلامي جامع يجب أن يحتذى، إضافة إلى كونها عملياً تشكل في واقعها القائم في الجمهورية الإسلامية في إيران تجربة حية متفاعلة مع مجتمعها وتحمل في طياتها القدرة على التجدد والاستمرار..
إلا أن هذا التواطؤ الإيجابي لن يمنعنا من مقاربة الموضوع مقاربة نقدية مفاهيمية تمخضت عن مجمل القراءة للكتاب ويمكن تحديدها بالآتي:
أولاً: عندما يطالعك العنوان الأساسي للكتاب «النظام السياسي الإسلامي الحديث» ينصرف الذهن إلى مبحث شمولي يطال الأنظمة الإسلامية (تجاوزا) أو على الأقل تجربة الإسلاميين منهم والتي لا تنحصر في إيران وإنما بشكل أو بآخر ترتبط بالتجربة السودانية.. ومع أن الأستاذ علي يستدرك الأمر في مقدمة كتابه حيث يحدد ما هو المقصود بالنظام السياسي الإسلامي الحديث ويحصر الموضوع في النظام السياسي للجمهورية الإسلامية في إيران.. إلا أن ذلك لا يرفع الالتباس بالكامل خاصة عندما يقع نظرك على العنوان الخارجي للكتاب.
ثانياً: يقدم السيد المؤمن في بحثه اسماً مستحدثاً لشكل النظام ويعتبره جديداً حيث يقول «فهو ليس نظاماً رئاسياً وإن كان رئيس الجمهورية هو صاحب السلطة وليس برلمانياً وإن كان البرلمان من السلطات الأربع المستقلة، إلا إنه نظام قيادي ويشرح في موقع آخر ميزة وسبب التسمية فيقول «نظام القيادي يتميز بكون سلطة القائد هي السلطة المحورية والأولى في الدولة وهي التي تشرف على عمل السلطات الثلاث (تنفيذية، تشريعية، قضائية) ويضيف النظام القيادي يمثل إضافة للنظم السائدة في مناهج القانون الدستوري والأنشطة السياسية.
لا شك أننا أمام شكل جديد ومختلف تماماً عما هو سائد من الأنظمة السياسية بأشكالها المختلفة وبالتالي نوافق الأستاذ علي المؤمن أن هناك إضافة للنظم السياسية والدستورية، لكن السؤال الذي ألح عليَّ وأنا أقرأ هل تعبر مقولة النظام القيادي بشكل كاف وتحمل كل الدلالات المطلوب قولها من خلال النظام الجديد؟! وكيف يمكن إبراز الصفات الكامنة لقوة هذا النظام وعكس إيديولوجيته؟! فالقول بقياديته للأسباب التي ذكرت سابقاً تشكل هوية مشتركة مع الأنظمة الرئاسية وإن اختلفت في التفاصيل لكنها تبقي إطارها العام، لذا فأنا أرى أن الكاشف الفعلي والذي يجسد فعلاً كل مقولات ودلالات النظام السياسي الإسلامي الحديث ويعطيه الحق في أن يكون جنباً إلى جنب مع النظم السياسية والمناهج القانونية والدستورية إنما تنبع من إعطاء شكل النظام اسمه الطبيعي القائم على أساسه أعني اسم نظام ولاية الفقيه وهو بهذا يتضمن النظام القيادي المشترك مع آخر ويبرز الخصوصية التي تجعله متفرداً ومتمايزاً ومستحقاً لوضعه القانوني والدستوري الجديد.
ثالثاً: يشكل الحديث عن الاقتباس محوراً أساسياً أن في الشكل أو المضمون ويورد الأستاذ علي المؤمن ما يلي: إشكالية الاقتباس وهي إشكالية منهجية ترتبط بإمكانية الاقتباس من الفكر البشري سياسياً كان أم اجتماعياً أم اقتصادياً وما يحاول أن يؤكد عليه على الدوام أن الاقتباس في دوائره المطلوبة يتمثل في «محاولة اكتشاف آليات محايدة نافعة موجودة في الأنظمة الأرضية بغية أسلمتها واستخدامها في مساحات التفويض التشريعي والمتغيرات» ويضيف في مكان آخر «استفاد من الانجازات البشرية التي تمثل نتاجات نافعة ومحايدة مفرغة من الأبعاد الإيديولوجية وتحديداً في مجال الصياغات الفنية والآليات» وهو من خلا ما ورد وغيره الكثير من الشواهد والأدلة التي تخدم فكرة النص يتجه نحو محاولة العمل على فصل الآليات والصياغات الفنية عن مستواها العقيدي وتحديداً في المستوى الديمقراطي بحيث تصبح هذه التجارب المتراكمة التي كانت نتاجاً غربياً صرفاً وإبداعاً بشرياً مباحاً فصلها عن واقعها للاستفادة منها وأسلمتها، وهنا يطرح سؤال هل بالإمكان انوجاد هذا الفصل؟! خاصة أن ذلك يتساوق مع الحديث عن «محاولات التوفيق القسري بين النظام السياسي والأنظمة الأخرى والخروج بمسميات هجينة كالنظام الإسلامي الديمقراطي، الخ. تعني منهجياً إقحام عقيدة ورسالة سماوية ونظام ديني لتتواءم وتجارب تاريخية وأفكار اجتماعية بشرية. وحتى لو استثمر النظام الإسلامي بعض آليات تلك الأنظمة (الديمقراطية تحديداً) فلن يكون هناك مسوغ نظري وواقعي للتسمي بأسماء تلك الأنظمة أو إضافة أسمائها إلى النظام الإسلامي «وكذلك اعتبار الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية أفكاراً ونظماً راقية… لكنها تبقى مفصلة على مقاس الغرب ولا يمكن تفصيلها علت مقاس آخر».
أليس القبول بآليات الديمقراطية هو الأخذ من تجربة الآخر المتكاملة والعمل على تطويعها وتوليفها أو بالأحرى أسلمتها، ومنطق التوليف يرفضه الكاتب ويحدده بالتالي «هناك فكرتان أو تجربتان بمستوى واحد من المقبولية والشرعية دون أن يكون أحدها مرجعية الآخر وتابعاً ودون وجود ثوابت ومتغيرات بل إن كل شيء خاضع لمعيار المتغيرات ثم تتم عملية التوفيق بين الفكرتين والتجربتين ليخرج الناتج هجينا».
فهل الآليات خارج إطار الفكر وهل فعلاً أن أجهزة وآليات العمل الديمقراطية لا علاقة لها بالفكر الذي تنتمي إلى تجربته بالكامل؟! وهل نحن أمام مأزق التهجين؟! وهل محكوم علينا أن نضع التوليف بالمعنى السالف فيصلاً بتاراً يلغي التداخل والاستيعاب والتمازح في التجارب الإنسانية؟! إزاء ممانعة التوليف وإشكاليات التقاطع والتضاد مع الأنظمة من ثيوقراطية وديمقراطية فإننا نلجأ إلى طرح أصالة الفكرة الإنسانية بمعناها الواسع ذلك أن هذه التجربة الممتدة من فجر التاريخ إلى الآن تشكل وحدة إنسانية تسعى نحو الأفضل وتستلهم حتى في أرضيتها موقع الاستخلاف التاريخي الذي جعل اللَّه الإنسان بالمطلق مؤتمناً عليه وإعطاء الأداء الأساس العقل لذا فإن انفكاك وتداخل التجارب الإنسانية واستيعابها لبعضها البعض والخروج بجديد كانت على الدوام هي المولد الأساسي لتقدم الحضارات وابتداع أشكال الأنظمة… من هنا يصبح الأخذ عن الديمقراطية أو أي نظام آخر إنما يتأصل في وحدته الإنسانية العاقلة المعطاة من اللَّه من خلال عملية استخلاف الإنسان وذلك يعطل مأزق التواصل ويصبح الحديث عن أن «الاستفادة من التجارب البشرية يحفظ للشريعة الإسلامية مرجعيتها في بناء النظام وخضوع كل فكرة لمعاييرها» وأيضاً كلام الشيخ شمس الدين في الآية الكريمة الذين يستمعون القول… هو القول المطلق الذي هو الفعل البشري والانجاز العلمي والممارسة والشكل التنظيمي وإنه كل إنجاز بشري في حياة الناس على الأرض وفي علاقاتهم في ما بينهم «في مكانه الصحيح وللمقاربة العملية وإذا ما وضعنا الأساس العقائدي للنظام الإسلامي في الجمهورية الإسلامية جانباً فإننا نلاحظ وبقليل من التدقيق أن شكل الأجهزة والآليات المتبعة هي بالكامل تتوافق مع خلاصة التجربة الإنسانية في شكل النظام والإدارة وإذا ما وجدنا اختلافات فهي طفيفة وموضوعية، فهل نستطيع القول أن كل هذه المباني آليات مجردة لا تمت إلى صلة بخلفياتها الفكرية وهل نكون واقعيين في ذلك؟! أم أننا نراها من الوجهة الإيجابية بحيث تصبح كل التجربة الإنسانية على قاعدة أصالة الفطرة مباحاً الاستفادة منها ضمن الحدود التي تراها الشريعة متوافقة معها؟!. وبهذا نخرج من حالة الاضطراب في التعاطي مع الفكر والإبداع البشري على المستوى النظام السياسي وما يتضمن من تفاصيل متنوعة.
رابعاً: في موضوع ولاية الفقيه فبالإضافة إلى دور الولي «الإمام يمثل الأمة ويرمز إليها قبل أن يمثل الدولة أما باقي المواقع في النظام الإسلامي فهو مؤسسات وأجهزة تعبّر عن موقف الإمام والأمة من منطلق كونها منتخبة من قبلها ووكيلة عنهما في تسيير حركة الدولة» المعروف والمتفق عليه في قيادة الأمة وتوليه مسؤوليات الإشراف على شؤونها، فإن ما نريد التركيز عليه هو دور الأمة وفعاليتها وموقعها فينقل السيد المؤمن عن الشيخ الزنجاني قوله أن «التجربة أثبتت أن النظام السياسي إذ أريد له الاستمرار فلا مناص من الرجوع إلى أصوات الشعب وعلى هذا الأساس فإن الانتخابات منبثقة من جوهر الإمامة ومنبثقة من التجارب الغنية وتمنح النظام الثبات مع أنه قائم على نظرية التنصيب التي تقود إلى الإمامة» وتتكامل في ذلك مع نظرية الإمام الصدر التي سماها «خط الشهادة والخلافة» وجمع فيها بين مبدأ ولاية الفقيه كاستمرار لولاية الرسول والإمام ومبدأ حرية الإنسان في الاختيار واجتماع المبدأين يعني اجتماع حاكمية اللَّه المفوضة إلى الإنسان المتمثل بالفقيه الشاهد، وبالإنسان أو الأمة الخليفة» وضمن هذين البعدين يرى الكاتب تمثل «دور الأمة بتفعيل ولاية الفقيه أي إنها من خلال بيعتها وطاعتها للفقيه الذي تختاره تعمل على تحويل ولايته من القوة إلى الفعل أي إنها لا تمنحه الشرعية فهي ليست مصدر سيادة الدولة والنظام لأنها لا تملك السيادة فمسار السيادة والحاكمية يبدأ من الأعلى».
هذا المسار يكشف عن موقع الأمة أو الشعب في نظام ولاية الفقيه الذي يعطي المشروعية التي تختص بالبعد القانوني للنظام والشريعة تعطيه البعد الديني من هنا يلعب الشعب دوراً أساسياً منذ اللحظة الأولى لانتخابه مجلس خبراء وانتخابهم الولي الفقيه وصولاً إلى كافة أشكال الانتخاب الأخرى وهو بالتالي شريك كامل الصلاحية بحيث لا تصبح كلمة «تفعيل ولاية الفقيه» تتناسب والدور الخطير الذي يقوم به في تثبيت الجمهورية الإسلامية وإكسابها المناعة والاستمرار تحت ظلال الولي الفقيه، وللتدليل على ما نرمي إليه نتساءل هل يمكن قيام نظام ولاية الفقيه بعيداً عن رضى الشعب واختياره لها فذلك يبقي النظرية في إطارها المجرد دون أي تطبيقات عملية… لذا فإن الشعب بهذا المعنى مقوم أساسي للنظام وهو ما نجد تعبيره في اعتبار الكاتب أن النظام السياسي الإسلامي يقوم على دعامتين أساسيتين هما ولاية الفقيه وشورى الأمة وهما في الوقت نفسه ضمان عدم تحول الحكم إلى حكم استبدادي.
والأستاذ علي المؤمن في خوضه هذا المجال مشكور أولاً لأنه أعطانا مساحة للقراءة المتصدية في هذا المجال، وثانياً لإتاحته لنا جميعاً أعمال الفكر وتوليد الأسئلة واستثارة النقاش فالشكر كل الشكر لكاتبنا الصبور ولمعهد الدراسات الرائد في هذا المجال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المقال بالأصل بحث ألقاه د. غالب أبو زينب في الندوة التي عقدها معهد المعارف الحكمية في بيروت حول رؤية علي المؤمن في “النظام السياسي الإسلامي الحديث”.