كتابة: فرهاد علاء الدين، كينيث بولاك
ترجمة: قتيبة ياسين
آخر ما يريده الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن هو حصول أزمة عراقية جديدة. ولسوء الحظ، فانها من الممكن أن تكون أول مشكلة سياسية-خارجية سيواجهها.
إن العراق مقبل على انهيار اقتصادي، وبحالته الحكومية الهشة هذه فمن المرجح أن الانهيار المالي هذا سيرافقه انهيار نظامه السياسي المتهالك مما قد يؤدي الى اذكاء جولة أخرى من الحرب الأهلية.
وعلى مدى العقدين الماضيين، خلق الفساد في العراق مشكلة ذات جانبين؛ حكومات ضعيفة، متواطئة وشمولية تعني أن كل حزب سياسي كبير سيدير وزارة واحدة أو أكثر. هذه الأحزاب تدير الوزارات البيروقراطية ليس بدافع مصلحة البلاد ولكن بهدف خلق شبكة محسوبيات ضخمة- آلات فساد تقوم بامتصاص عائدات النفط من الخزينة الحكومية وتمررها الى جمهورها بشكل وظائف وعقود وامتيازات أخرى. لقد أدت ظاهرة استفحال الكسب غير المشروع الى خنق ماكان يملكه العراق من القطاع الخاص الصغير، مما يعني عدم تواجد بدائل كثيرة للوظيفة العامة.
ونتيجة لذلك، أصبحت الدولة أكبر جهة توظيف في العراق ويعتاش نسبة كبيرة من سكان الدولة على وارداتها أما بشكل مباشر بهيئة رواتب ومعاشات تقاعدية أو بشكل غير مباشر بهيئة عقود او توفير سلع وخدمات للموظفين في المؤسسات الحكومية. حتى الشركات الصغيرة في العراق تعتمد على الحكومة في النهاية لأن الكثير من عملائها -وخاصة في المحافظات الكبرى- يأخذون رواتبهم من الحكومة بطريقة أو بأخرى. علاوة على ذلك، مازالت الحكومة العراقية تقدم “سلة غذائية” شهرية عبر نظام توزيع عام، والتي تبقى عنصراً مهماً للحياة اليومية للطبقة الفقيرة والكادحة في العراق
الحكومة مجبرة على طباعة النقود من أجل تسديد القروض مما يزيد خطر تفشي التضخم ,ليس مستغرباً أن تكون الزيادة في وظائف القطاع العام منذ 2004 بمقدار ثلاثة اضعاف، وتدفع الحكومة رواتب تزيد نسبتها 400% عما كانت تدفعه قبل 15 سنة الماضية. وهكذا أصبحت الحكومة وعائدتها النفطية هي المحرك الرئيسي للاقتصاد والمورّد الأساس للعراقيين.
والنتيجة، هي أن بغداد تحتاج 5 مليار دولار شهرياً لتغطية الرواتب الشهرية والمعاشات التقاعدية، بالإضافة الى 2 مليار دولار لتغطية الخدمات الأساسية والنفقات التشغيلية والتي تساهم الكثير منها بشكل غير مباشر لدعم السكان. ومع ذلك، وبمجيء جائحة كورونا والتي تزامن معها انهيار أسعار النفط (والذي يمثل 90% من واردات الحكومة)، تراوحت العائدات الشهرية للعراق مابين (2.5 – 3.5) مليار دولار، وهذا يعني عجزاً شهرياً تواجهه حكومة بغداد يتراوح ما بين (3.5 – 4.5) مليار دولار.
يستنزف العراق أمواله حالياً لتغطية هذا العجز. ففي شهر تشرين الأول الماضي، صرح وزير المالية العراقي علي علاوي “إن احتياطات البنك المركزي تبلغ 53 مليار دولار.” ومنذ ذلك الحين، أقر مجلس النواب العراقي قانون تمويل العجز المالي لتغطية رواتب الموظفين لثلاثة اشهر – تشرين الأول والثاني وكانون الأول لسنة 2020. وبذلك يصل إجمالي ديون العراق الى 80 مليار دولار، وفقاً لمصادر حكومية ومسودة الموازنة السنوية، اذ خصصت الحكومة 12 مليار دولار من الميزانية السنوية لسداد أصل القروض وفوائدها – وكلها تزيد من تفاقم النقص لرأس مال الحكومة.
ووفقاً لمسؤولين حكوميين، فان احتياطات البنك المركزي ستنضب لو دفع الحكومة ما عليها من استحقاقات ولهذا السبب فانها مجبرة على طباعة النقود من أجل تسديد القروض التي ستذهب لتغطية رواتب الموظفين والنفقات التشغيلية مما يزيد خطر تفشي التضخم. ولهذا السبب، قد تضطر حكومة بغداد قريباً الى خفض قيمة الدينار بدلاً من ذلك، وهذا بدوره ينطوي أيضاً على مخاطر اقتصادية وسياسية كبيرة. إن تخفيض قيمة الدينار دون أن يصاحبها اصلاحات اقتصادية -والتي ترفض القوى السياسية في العراق النظر فيها- سوف يقيد الواردات ويقوض المدخرات ويزيد من المصاعب.
أكثر من ذلك، من المحتمل ان يسبب خفض قيمة العملة مزيداً من التضخم أيضاً. تبخر العملة الصعبة يعني أن العراق لن يكون بمقدوره دفع ثمن واردات السلع والمواد الغذائية. فالعراق مستورد لكل شيء تقريباً ماعدا النفط، فلو انخفض تدفق العملة الصعبة وانخفضت قيمة الدينار، ستصبح أغلب البضائع شحيحة وسترتفع أسعارها. ولو استمرت الحكومة بسحب الأموال المتبقية في البنك المركزي ستنخفض معها قيمة الدينار في غضون ستة أشهر بمجرد تخفيض قيمة العملة.
ويأمل بعض المسؤولين في الحكومة العراقية أن تؤدي الزيادة المتوقعة في أسعار النفط خلال فصل الربيع الى انقاذهم. ومع ذلك، ووفقاً للعديد من تصريحات تجار ومحللي النفط، فهم يتوقعون زيادة في الأسعار تصل نسبتها ما بين 10-15% وهي نسبة ضئيلة للغاية للقضاء على أزمة العراق التي تلوح في الأفق. وحتى هذه النسبة قد تتلاشى لو حذا العراق وإيران وليبيا حذو السعودية وروسيا بعملية زيادة الانتاج لحماية حصتهم في السوق.
لو أصبح العراق غير قادر على تأمين الرواتب والحد الأدنى من النفقات التشغيلية فسيكون لذلك عواقب وخيمة. لقد دق رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، جرس الانذار في مؤتمر صحفي في 17 تشرين الثاني اذ قال “ستواجهنا مشكلة دفع الرواتب في الشهر الأول، انا احذركم من الان”.
كشخصية تكنوقراطية من دون قوة قاعدة سياسية، لم يتمكن الكاظمي من دفع الاحزاب السياسية لمعالجة الأزمة المالية ناهيك عن حلها. ورغم إصدار الحكومة “الورقة البيضاء للإصلاح” بتاريخ 17 تشرين الأول لكنها لم تقم بتنفيذ بنودها. ونتيجة لذلك، لم تكن هناك مساعٍ لخفض الرواتب أو تقليص عدد موظفي الدولة أو التخلص من مئات الألاف من الدرجات الوظيفية الفضائية خوفاً من اغضاب الزعامات السياسية العراقية المهمة.
عند توليه السلطة، حظي الكاظمي بتأييد واسع النطاق: من المواطنين العراقيين والآلاف من المحتجين ومن المؤسسة الدينية الشيعية في العراق ومن الأحزاب الشيعية المعتدلة، والعديد من الأحزاب السنية وكذلك من الكورد. كان يُنظر إليه بكونه رجلاً ذكياً وبعيداً عن المعترك السياسي ومؤثراَ وذو علاقات طيبة مع الجانب الامريكي. ومع ذلك، هناك مخاوف متزايدة من عدم قدرة الكاظمي على إصلاح النظام العراقي المنكسر. وقد تكون الأزمة الاقتصادية التي ستنجم عن نفاذ الأموال بمثابة المسمار الذي يدق في نعشه. ومن المحتمل جدا ان يفقد الكاظمي مصداقيته كلياً، وستحاول العديد من الأحزاب السياسية ان تجعله كبش فداء لتجنب رد الفعل الشعبي المحتوم. وبالوقت نفسه، ستحاول القوى السياسية المقربة من إيران – الذين عارضوا الكاظمي – استغلال حالة الفوضى لإعادة تأكيد نفوذهم في الحكومة العراقية.
من شبه المؤكد أن تؤدي الأزمة المالية في العراق الى اندلاع مظاهرات واسعة النطاق في الشوارع من جديد، حيث سيطالب العراقيون مرة أخرى بتغيير الحكومة. وسيكون من الصعب على الحكومة القادمة أن تحافظ على النظام لو لم تقم بدفع الرواتب وكان رئيس حكومتها يفتقر الى السلطة. ستحاول الجماعات والعشائر المسلحة، بما فيها الفصائل المسلحة المقربة من إيران الى ملئ الفراغ وأخذ دور قوى الأمن العراقية. ستتقاتل هذه المجموعات فيما بينها من أجل السيطرة على الأرض وعلى الموارد المدرّة للدخل مثل النفط والموانئ والمعابر الحدودية والشركات الكبيرة والأراضي الزراعية والممتلكات الخاصة.
وفي مثل هذه الحالة، سيصبح النزاع المسلح والاستيلاء على الأراضي أمراً شائعاً مرة أخرى. باستثناء بعض المناطق التي تتمتع بأمن قوي مثل إقليم كوردستان. ومع ذلك، حتى الأقليم لن يكون بمأمن من المشاكل الاقتصادية الداخلية ما لم يتمكن من توسيع قاعدة موارده، لأنه يعتمد مالياً على بغداد أيضاً. ربما تكون كركوك وحقولها النفطية أحد أكثر أهداف الكورد ظهوراً، لكن ذلك لن يؤدي سوى الى اشعال الصراع بين أربيل وبغداد، ناهيك عن الفصائل الشيعية التي ستقاوم مثل هكذا خطوة.
وكما كان الحال في فترتي (2005-2007) ، (2014-2017) فإن جولة أخرى من الصراع الأهلي في العراق ستحدث وستجذب معها الدول الجارة. فالعراق ببساطة، مهم للغاية بالنسبة لهم جميعاً، ويمكن توقع تدخلهم لغرض تأمين مصالحهم.
ستشعر تركيا بالتهديد تجاه المكاسب الكوردية، وبالأخص لو استطاعت كوردستان الاستحواذ على كركوك. ستشعر انقرة بالواجب والالتزام تحت شعار حماية التركمان في كركوك ومنع الكورد من إحياء حلم الاستقلال. وستعمل إيران على استعادة نفوذها المهيمن في بغداد، فلا تستطيع طهران ان تضحي بإيرادات التجارة مع العراق (والتي تصل الى 12 مليار دولار) بالإضافة الى فرص التهريب، والوصول الى الأسواق المالية العالمية. وقد يستجيب السعوديون لازدياد النفوذ الإيراني بدعم المجاميع السنية والقبائل العربية بالتمويل المالي والأسلحة لحماية أنفسهم. خاصة وان الرياض ليس باستطاعتها الاعتماد على تواجد عدد كبير من القوات الأميركية للتعامل مع المشكلة كما حدث في 2006. يمكن للعراق ان ينزلق بسهولة الى حرب أهلية بين المجاميع الداخلية وبتدخل اقليمي ويجعل العراقيون يتصارعون مع بعضهم.
وبالنظر لخطورة الوضع وأهمية العراق في المنطقة وسوق النفط الدولي، لا يمكن للولايات المتحدة والمجتمع الدولي أن يقف مكتوف الأيدي. بطبيعة الحال، خلال الأشهر الست الأولى من إدارته، وبوجود أزمة وبائية واقتصادية واسعة النطاق في بلده، لن يكون للرئيس الأمريكي الجديد بايدن القدرة على تحمل تكاليف جعل العراق أولوية قصوى بالنسبة له، لكن العمل عاجلاً سيكون أقل تكلفة ويجنب مواجهة خيارات صعبة في وقت لاحق، عندما ينهار العراق.
لو ارادت الولايات المتحدة ان تظهر شيئاً من الريادة، فمن المحتمل ان يشارك الحلفاء معها أيضاً، ممكن ان تساهم المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودول الخليج وحتى بعض الدول الأوروبية ودول شرق أسيا.
الأزمة القادمة في العراق هي أزمة سيولة. سيحتاج العراق الى المال لمنع انهيار نظامه المالي، والذي سيكون قطعة الدومينو الأولى لسقوط ما بعده. فلو تعهدت الولايات المتحدة على تأمين مبلغ مالي محدد، ربما مليار دولار، سيكون من الممكن حينها جمع حزمة مالية تصل من 5 الى 10 مليار دولار من قبل الدول الحليفة لأميركا.
إن فكرة توفير ميزانية طوارئ قدرها مليار دولار لدعم العراق ربما تبدو مستحيلة في الوقت الراهن. ولكن يفترض ان لا تكون مستحيلة. لانها لا تخرج من جيوب المواطنين الأميركيين على شكل ضرائب متزايدة. ومن المفترض ان تكون أمريكا تعلمت درسين مهمين في الاثنتي عشرة سنة الماضية في هذه البقعة من العالم.
الأول، إن ما يحدث في الشرق الأوسط لن يبقى هناك فقط. والثاني، أن قيمة أونصة وقاية من المخاطر تساوي قيمة باوند من العلاج – كما تجلت في سياسات واشنطن المأساوية في العراق وسوريا وليبيا.
بالطبع، ونظراً لمعدل الحرق المالي العالي في العراق، فمبلغ 10 مليار دولار لن يُسيّر شؤون الدولة سوى لثلاثة أشهر فقط. ولهذا السبب، يجب أن ترافق الأموال شروط قوية مرفقة: تدابير تقشفية لتشجيع الادخار، تخفيضات كبيرة في الانفاق الحكومي، تدابير صارمة لمكافحة الفساد، ادماج منتسبي الحشد بالكامل مع الجيش العراقي كأفراد وليس كفصائل، وبالتالي ينصاعون لأوامر الحكومة فقط. بالإضافة الى وعود اغاثة مالية لاحقة كحوافز فيما لو كان هناك التزام جيد من قبل العراق بهذه التدابير.
ستكون لحزمة الإغاثة الدولية هذه فوائد جانبية ضرورية. ففي العراق، الطريقة الوحيدة لدعم أجندة سياسية وبناء قاعدة أساسية لترى النور لاحقاً، هي بواسطة الموارد. لقد أظهر الكاظمي بشكل متكرر نواياه الصحيحة وأفكاره السليمة لكنه يفتقد للقوة السياسية والعسكرية لتطبيقها. إن وضع مليارات الدولارات تحت تصرفه، ولكن بشروط صارمة، من شأنها أن تعطيه الموارد اللازمة لبناء هذا الدعم الشعبي واستخدامه لتقويض الأحزاب الحالية، والميليشيات والنظام اللصوصي.
إن هذه التدابير هي ما يحتاجه العراق على المدى الطويل أيضاً. فكلما أكثر الكاظمي من لوم المجتمع الدولي على إجبار العراق بالأخذ بهذه التدابير، كلما فهم العراقيون أكثر بأن الانصياع لهذه التدابير سوف ينقذهم وإلّا سينهار النظام بأكمله، سيؤدي الى قدرة أكبر لتطبيق ما يأمل به دائماً وما تتأمله الحكومة الأميركية دائماً بقدرته على الفعل.
عندما كان بايدن نائباً للرئيس، فاز بمهمة مشكوكة لإدارة الشأن العراقي. وبالنظر لسياسات الرئيس أوباما السابقة، فيمكن القول انه كان اسوء مهمة انيطت به. ولكن عندما يتسنم منصبه ويصبح رئيساً، فأن معالجة مشاكل العراق قد لا ترقى لتكون إحدى أولوياته أو ضمن رغباته لكن أزمات بغداد تمثل فرصة لجعل العراق -ومصالح أميركا هناك- على الطريق الصحيح بشكل لم يكن بامكانه في المرة السابقة عندما كان بايدن مسؤولاً فيها عن الملف العراقي.