المرجع المتصدي وتعدد مرجعيات التقليد

0 192

د. علي المؤمن

إن الجعل الشرعي، بأن يكون لكل الفقهاء ولاية الفتوى والقضاء والحسبة وتداول المال الشرعي، يخلق إشكالية لا تزال مدار بحث ونقاش. فإذا كان الفقيه منصوب من قبل الإمام المعصوم نصباً عاماً، ومعيّن تعييناً نوعياً؛ فهذا يعني أن الولاية هنا لجميع الفقهاء، ولهم حق إعمالها في الزمان والمكان نفسيهما؛ لأنهم معينون تعييناً نوعياً دون استثناء. وهو ما جرت عليه العادة؛ إذ يطرح المرجع الديني نفسه، ويؤكد أعلميته على الساحة العلمية من خلال دروسه وأبحاثه، ومن خلال تلامذته وحاشيته؛ فيكون مرجعاً يقلّده قسم من الشيعة، دون أن يكون لهم دور في تعيينه، ودون أن يكون للكفاءة القيادية والقدرة على تلبية الحاجات الاجتماعية أثر في التعيين.

والرجوع إلى الفقهاء وتقليدهم لا يدل على رجوع الأمة في زمن معيّن إلى فقيه أو مرجع بعينه؛ بل لكل من اجتمعت فيه الشروط المثبّتة في كتب الفقه والحديث، ولاسيما الفقاهة والعدالة. حتى أن الأعلمية غير مشروطة بجعل الولاية للفقيه، بل تتحقق الولاية لكل فقيه، كما تدل ظاهر الأحاديث. وهذا ما أدّى إلى تعدد مراجع التقليد في كل عصر.

و حيال إشكالية تعدد مراجع التقليد؛ ينبغي حصول إجماع نسبي لدى أهل الخبرة في الحوزتين الشيعيتين المركزيتين ( النجف وقم) لطرح أحد المراجع وفق شرائط معينة؛ ليكون هو المرجع المتصدى أو المرجع الأعلى؛ للحيلولة دون التعارض بين المراجع في قضايا الشأن العام والنظام المجتمعي، وهو أمر أساس ومصيري للمنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية. ويمكن إضافة شرطي الكفاءة والمقبولية العامة إلى شرطي الإجتهاد والعدالة؛ ليكونا مرجحين في هذا المجال. أما إذا تحقق شرط الأعلمية النسبية؛ فستكون الشروط متكاملة في المرجع المتصدي أو الأعلى الذي تكون له ولاية على النظام العام؛ كما الحاصل اليوم مع مرجعيتي السيد السيستاني والسيد الخامنئي.

ونشير هنا الى مفهومي الأعلمية والمرجعية العليا التي تقلدها أغلبية الشيعة، وتناط بها قضايا الشأن العام، وهما مفهومان أساسيان لصيقان بموضوع التعدد في مراجع التقليد:

1- الأعلمية هو شرط عقلي تدبيري لفرز المرجع الأكبر المتصدي وحل مشكلة تعدد المرجعيات المتصدية لزعامة الحوزة أو الشأن العام، والحيلولة دون تشتت قرار الحوزة والمجتمع، وهو تدبير ناجح ومقبول. والمراد به الأعلمية في الفقه أساساً. ونظراً لتفاوت المعايير واختلاف المخرجات، فإن الأعلمية تعد أمراً نسبياً وإحرازها مستحيل. وبالتالي فإن أهل الخبرة يوجهون إختيارهم المرجع الأعلم بحسب قناعاتهم، وهي قناعات بشرية خاصة. بل أن متطلبات مأسسة المرجعية تتطلب إضافة معايير في الأعلمية تتجاوز الفقه والاصول، ومن بينها الأعلمية في وعي مقاصد الشريعة ونظامها العام، والأعلمية في تشخيص المفاسد والمصالح والموضوعات ذات العلاقة بالشأن العام.

2- مصطلح المرجع الأعلى هو الأخر مصطلح عرفي وإجراء تدبيري وليس رتبة علمية. وقد أوجده بعض علماء الحوزة العلمية خلال القرن العشرين الميلادي لفرز المرجع الأعلم المتصدي للشان العام عن غيره من مراجع الصف الأول. وهو تمييز مقبول، بل ضروري. ولم يكن الفقهاء حتى زمن السيد أبي الحسن الموسوي الإصفهاني والسيد حسين الطباطبائي البروجردي يحملون هذا اللقب؛ بل يحملون توصيفات “زعيم الشيعة” (لقب الشيخ المفيد) و”شيخ الطائفة” (لقب الشيخ الطوسي) و”الشيخ الأعظم” (لقب الشيخ الأنصاري).

وبالتالي؛ لامانع من استحداث مصطلحات عرفية تفي بالأغراض التدبيرية والتنظيمية، كما تم استحداث مصطلح “الحوزة العلمية” في عصر الشيخ الطوسي، ثم مصطلحات “ثقة الاسلام” الذي استحدث في عهد الشيخ الكليني قبل ألف سنة، و”العلامة” الذي لقب به الشيخ الحلّي. ثم تمت استعارة لقب “حجة الإسلام” من الشيخ الغزالي، وبعدها استٌحدث لقب “آية الله” للدلالة على المجتهد كرتبة علمية. وحين اضطرت الحوزة للتمييز بين عموم المجتهدين ( آيات الله) وبين المرجع؛ أضافوا مفردة “العظمى” الى آية الله؛ ليختص لقب آية الله العظمى بمراجع التقليد فقط. ثم تم استحداث مصطلح ” زعيم الحوزة” و “المرجع الأعلى” للتمييز بينه وبين سائر المراجع؛ بوصفه المرجع العام الأول لكل الشيعة.

وليست هذه الإجراءات التدبيرية العرفية تقتصر على الشأن المذهبي والديني؛ بل يعمل بها كل البشر منذ بدإ الخليقة وحتى الآن. وكلما اتجهت الكيانات الدينية والعلمية والأكاديمية الإجتماعية والسياسية والإقتصادية نحو تطوير هيكلياتها ومأسسة سياقاتها وأدواتها؛ ازدادت الحاجة الى المصطلحات والرتب والعناوين.

ولكن ينبغي التنبه الى حساسية الشأن الديني في مجال استحداث المصطلحات والرتب والعناوين العامة والخاصة؛ بوصفه شأناً يربط بين الدنيا والآخرة، ويختلف عن الشؤون الدنيوية، ولا يمكن التسامح في إستحداثاته التدبيرية؛ بل يحتاج على الدوام الى إقرار من الشريعة، أي مقبولية شرعية ودقة فائقة في الدلالات، ولا سيما في العناوين الخاصة ذات الدلالات المقدسة.

(المقال القادم: مفهوم حاشية المرجع)

اترك رد