الفيليون: حكاية وطن مزّقه التهجير الوحشي..!

15

الفيليون: حكاية وطن مزّقه التهجير الوحشي..!

صباح زنكنة

في مثل هذه الأيام، تهبُّ علينا ريح الذاكرة محمّلة برماد البيوت التي هجرت من اهلها وتهُدمت، حيث صدى أصوات الأمهات وهنّ يودعن أطفالهن إلى المجهول، وبعيون الآباء المليئة بالحيرة والعجز أمام قدرٍ جائر لا يمكن كبح اجرامه .

إنها ذكرى تهجير الكورد الفيليين من وطنهم الأم، من ضفاف دجلة إلى حدود الجراح التي لا تلتئم ، ذكرى لا يمكن للزمن أن يطمس ملامحها الحزينة مهما حاول.

لم تكن التهمة سوى انتمائهم إلى هوية مزدوجة: عراقيون حتى النخاع، وأكراد شيعة يحملون في دمائهم عشق الأرض والعرض وصلابة الجبال.

لكن تلك الهوية الناصعة بدلا من أن تكون جسرًا للثراء الإنساني واللحمة الوطنية، تحوّلت إلى قيد حديدي يلف أعناقهم، حين صارت السياسة الطائفية الغاشمة هي اليد العابثة التي تطارد الإنسان حتى في تفاصيل حياته اليومية، في اسمه ولغته، لهجته الدافئة وزيه وفي طقوس أعياده .

فحين تساقطت أوراق التوت عن ذلك الزمن الاغبر ، انكشفت وحشية القرار الذي اقتلع آلاف العوائل من بيوتها وجذورها واصولها على انهم اجانب، اجتثوا كمن يقتلع الأشجار من جذورها ويرمي بها إلى تيه الصحارى البعيدة لتجف او لتعيد الدخول في حياة قاسية فتعيش الهامش مما تبقى.

كانت القوافل طويلة، والليالي باردة، والقلوب متعبة والانفاس متقطعة ، من نجى في المسير نجى ومن لم يكتب له الحياة تناثرت اشلاؤه بعد ان يصبح لقمة سائغة للالغام الارضية او كواسر الصحراء وذئابها.

لم يكن التهجير مجرّد انتقال قسري من مكان إلى آخر، بل كان اجتثاثًا من عمق الروح. كانوا يُساقون إلى الحدود حفاة، لا يملكون إلا صبرًا تقطّع من كثرة نزف وبكاء الاطفال والرضع وانين المرضى وتأوهات الشيوخ مشهد لن يستطيع اي كاتب صياغة تراجيديتها كما لو كان هو الالم بعينه .

ظلّ الكورد الفيليون أوفياء لذاكرتهم، حملوا معهم مفاتيح بيوتهم المهدمة كما يحمل المزارع والفلاح حفنة من تراب الأرض التي عشقها ، وظلّت الحكايات تُروى من جيل إلى جيل: عن الازقة القديمة التي عبقت برائحة الخبز الطازج، عن الأسواق التي كانت تعجّ بأحاديث الجيران، وعن مقامات الأولياء التي كان الناس يقصدونها للدعاء في الليالي المقمرة ، وعن البيوت الفارهة التي سكنها اغنياؤهم .

إن مأساة الكورد الفيليين ليست مجرد فصل مظلم في كتاب التاريخ العراقي، بل هي جرح غير مندمل في جسد الوطن، لفئة دفعت ثمنًا باهظًا لانتمائها لبلاد لم يتنصفهم يومًا،.

واليوم، ونحن نستذكر تلك المأساة، لا بد أن نعيد طرح أسئلة حائرة التي تأبى أن تموت في صدورهم:

متى يُعاد الاعتبار الكامل للكورد الفيليين ويُعترف رسميًا بظلم التهجير الذي تعرضوا له؟

متى ستعود إليهم حقوق المواطنة الكاملة، وتُردُّ إليهم وثائقهم الرسمية التي سُلبت منهم ظلما وعدوانا ؟

هل سيأتي اليوم الذي تُفتح فيه ملفات المفقودين من أبنائهم أمام العدالة، ليعرفوا مصير أحبّتهم الذين غُيبوا في غياهب السجون والمقابر الجماعية؟

هل ستقوم الدولة بتعويضهم تعويضًا عادلًا عن ممتلكاتهم وأراضيهم التي صودرت بغير وجه حق؟

متى تُعاد الجنسية العراقية لمن سُحبت منهم قسرًا، وتُزال عنهم وصمة “التبعية” التي استُخدمت حجة لاقتلاعهم من جذورهم؟

متى يكون للكورد الفيليين تمثيلٌ سياسي حقيقي يُنصفهم ويُعيد لهم صوتهم في وطنٍ ضاق عليهم ظلمًا حقهم من الكوتا الانتخابية؟

وهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه المناهج الدراسية تُدرج معاناتهم في صفحاتها، ليعرف الأجيال القادمة ماذا يعني أن يُقتلع الإنسان من وطنه ظلمًا؟

ليست هذه أسئلة عابرة، بل صرخة ضمير حيّ يرفض أن يصمت أمام المظالم، فانصاف الكورد الفيليين ليس منّةً من أحد، بقدر ما هو حقّ واجب الوفاء به .

الكورد الفيليون، بما قدّموه من صبر وصمود، كتبوا بأرواحهم المعنى الحقيقي للوطن بأن ليس قطعة أرض فحسب، بل كرامة تُحفظ، وهوية تصان، وذاكرة لا تُمحى.

في يومهم هذا، ننحني احترامًا لشجاعتهم، ونعدهم أن تبقى قصتهم خالدة في الضمير الجمعي، تذكّرنا جميعًا أن العدل وإن تأخر، لا يموت والحق وان تعذر لا بد ان يتحقق

التعليقات مغلقة ، لكن٪ strackbacks٪ s و pingbacks مفتوحة.