الحسين (عليه السلام).. الشخصية والمبدأ

0 241

 

هبه جبار الماجد

هناك.. على تلك الأرض المتاخمة للصحراء من أطراف كربلاء، أوقف الحسين (عليه السلام) الركب الهاشمي القادم من أعماق الجزيرة، لينتظر القدر الإلهي الذي تكّلف به نيابة عن جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى امتداد الرمل المدلهِم حوله، غارت عيناه الكريمتان في أفق السماء، وقد تجمعت الجيوش المحتشدة لقتاله، بين تباعد ماء الفرات وانحسار النخيل وقرب لحظات الزوال ظهرا، في ذلك اليوم الصائف بسموم الريح اللاهث وحرارة الشمس التي كانت تذيب الصخر وتشوي وجوه الركبان، بدأت الملحمة الكبرى هناك، تلك التي لم ولن تصفها بطون التاريخ بوقائعها الحقة بعد..
لم يجد معه ابن البتول (عليهما السلام) من ناصر غير آل بيته وأصحابه السبعين ونفر قليل من بقية المؤمنين، فحمد وحوقل، ثم ألقى حجته على القوم علّه يرى فيهم لبّاً أو عقلاً يعي ما يقول، حتى تلا قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ” إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ “، وهنا أوضح أنه ابن تلك النبوة، ومن صلب ذرية اصطفاها الله تعالى اختياراً على الناس، فهل أنتم تفقهون.. ولات حين إدّكار واستذكار.
هناك.. كبّر الحُسين (عليه السلام) نداء الحق ليسطّر للإنسانية درسا بليغا وفلسفة مُثلى، واخلاقية لا يرتقي إليها إلا من هم في مصاف الأنبياء والأولياء.
هناك.. قاتل الحسين بروح العقيدة، وإستراتيجية الثبات على المبدأ، فلا تراجع أمام وطأة الردة الجاهلية التي رفع لوائها أصحاب القرار السياسي الأموي (عليهم لعنة الله)، فكانت (الطف) واقعة نكاد نراها بأم أعيننا، ونحس مأساتها بجوارحنا، فتلهمنا عزماً وتزيدنا ثباتاً، وتقهر فينا غلواء الدنيا، وتنسينا هذا الزخرف الزائف في حياتنا، وتعلمنا أبجدية التحدي، وتلهب فينا عنف المواجهة بين الحق والباطل.
هذا هو الحسين (عليه السلام).. قاتل وقتل مظلوما شهيدا، وظل حياً خالداً في ذاكرة البشرية حتى قيام الساعة، وهناك.. فُنِيَ أعداؤه ومسخوا من على وجه الأرض، فلم تبق منهم باقية قط..
هذا هو الحسين (عليه السلام).. العربي الهاشمي الذي علّم دُهاة الدنيا كيف يُظلم لينتصر، وكيف يثبت ليهزم الطغاة..
هذا هو الحسين (عليه السلام).. قربان الحق الذي بكته السماء، وغدا بضريحه الطاهر كعبة للسائلين..
هو ابنُ مَنْ؟ إن كنتم تنسبون؟
هو ابن النصفين من دم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ابن علي وفاطمة مما تعرفون، ربيب الحجر النبوي المقدس، ورهان المباهلة والكِساء، فأي جدٍ له ووالد وأم، ومن أي نور مقتبس ودم، وأي رضاع رضع في مثل هذا البيت حتى لاقى الشهادة يوم العاشر من محرم الحرام.
هذا هو الحسين (عليه السلام).. امتداد لذلك السمو الروحي النبوي الصاعد إلى السماء في ليبقى قانون الله تعالى سائداً في الأرض “لا إله إلا أنا فاعبدون”، ورفض الظلم والكفر والعبودية وإيثار السلام على البغي، وإعلاء الحق.
تلك هي الحقيقة التي نبتت في ضمير أبا الأحرار وسيد الشهداء (عليه السلام)، إماماً ومجاهداً ومعلماً؛ فأعطى ما لله بنفسه وأهله وأطفاله، ووضع ما للدنيا عرض السيوف التي أخذته بلا رحمة، ليترك لنا في النهاية سر الصراع الحق من أجل المبدأ، وكيف يكون؟ ومتى؟ وبأي ثمن؟
فإن بكيناه.. فلا يجب أن نبكيه إلا من ضمائرنا وعقولنا، بلا غرض أو مباهاة، لنوصل للعالم كله هذه الرسالة الخالدة المقدسة، وليعلموا ظلم الإنسان، ولننعي بالحسين (عليه السلام) القيم والدين، وما تفانى من أجله.. وإنها لعبرة لأولي الألباب.

اترك رد