د. سارة كنج
عبارةٌ لطالما إستوقفتني و أنا أستطلعُ كتب المناهج العامّة للتربية و التعليم في لبنان –
كلماتٌ قليلة دفعت بآلاف من الصُّور المكتنزةِ في ذاكرتنا العربية من أهوالٍ و حروبٍ و ويلات لتنتصبَ أمام واقعنا رافعةً السؤال الأكبر : ” كيف للتربية أن تبنيَ أجيالاً ترعرعت على الأوجاع و الأحقاد و تمرَّغت في بؤر الفتن المذهبية و الطائفيّة و العرقية و الأتنيّة ؟!
مشكلةٌ لا يُعاني منها وطني فحسب ، بل كلُّ بلدٍ شكَّل مطمعاً للغرباء فحّولوا تنوّعه من نعمة أغدقها عليه الخالق عز و جلّ إلى نقمةٍ و بلاء ، تحت رايةِ ” فرِّق تَسُدْ ” .
إزاء هذه الصورة الشّبه مأساوية لواقعنا العربي ، تبرز التربية متألقة بأدوراها المتعددة لتشكَّل منارة الأمل و نقطة الإنطلاق ، و التي تتجَسَّد في بناء مواطن صالح يعيش في كنفِ وطنٍ جامع .
فنهضة الأمم عبر التاريخ مرتبطة بالتعليم ، حيث لم نرَ أو نسمعْ عن أمةٍ جاهلة أخذت مكانها في الصُّفوف الأولى بين الأمم الناهضة. و على سبيل المثال فإنَّ أحد أهمّ أسرار النهضة اليابانية بعد زلزال الحرب و قدرتهم على تخطي الكوراث و بناء دولتهم التي تمثل واحدة من أكبر ثلاث قوى إقتصادية و علمية و تكنولوجية في العالم ، هو بناء الانسان الياباني و حسن الادارة ، حيث عمد القائمون على النظام التربوي و التعليمي على تنقية منطومة التعليم اليابانية من الشوائب الاميركية التي وضعوها أثناء إحتلال ما بعد الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥ ، و نجحوا بدورهم عام ١٩٨٩ في مراجعة كل البرامج التعليمية و تطهيرها من أي قيمة مستوردة و أضافوا برامج السلوك و الأخلاقيات و المواطنة ، كما عزّزوا دور المعلم الذي يبرز واضحاً في تصريح إمبراطور اليابان الذي يقول فيه :
” بدأنا بكل ما إنتهى به الآخرون و تعلَّمنا من أخطائهم و أعطينا المعلِّم حصانة الدبلوماسي و راتب وزير ” و ذلك للتشديد على دوره في بناء الشخصية الفردية للمتعلم من أجل الإرتقاء بالوطن .
و لم تكن ألمانيا بعيدة عن هذا التوَجُّه بل كانت السباقة إليه ، حيث قال المفكر الألماني فيشته Fichte في كتابه خطابات إلى الأمة الألمانية بعد هزيمة ألمانيا من قبل فرنسا بقيادة نابليون بونابرت ( ١٨٠٨ ) : ” إنّ إصلاح التعليم في كلّ مراحله ، هو وحده الذي يُعلي من شأن ألمانيا لمواجهة إحتياجات الدولة في هذه الأعوام التي تحطمت فيها الروح الألمانية بسبب الإستسلام السريع و الإذلال الذي تعرَّض له الوطن ” .
و قد كان المعلمون الرسميون في ألمانيا في ذلك الوقت يركزون على الوطنية كدين جديد للوطن في المدارس الألمانية ، تماماً كما فعل غريمهم نابليون بونابرت في مدارس فرنسا ، إذ جعل الوطنية اللاهوت الجديد .
و من خلال هذه الجولة التاريخية السريعة على تجارب الدول المتقدمة ، نرى أهميّة التربية على المواطنة في بناء الأجيال و الأوطان تلك الكلمة السحرية التي تمتلك القدرة على تغيير تلك المنظومات المجتمعية البائدة و القائمة على الولاء للمذاهب و الطوائف و الافراد و الاحزاب بمعزل عن الوطن .
و مع ” التربية على المواطنة ” ملتقانا في المقالة اللاحقة لنرتوي من مفاهيمها و قيمها و روحيتها من أجل غدٍ أفضل .