وجيه عباس
لم أعرف أن الموت يمكن أن يمارس العري حتى سمعت أنك مُتَّ أيها العريان في زمن “دشداشة شاكر” وأقمشة”فتّاح باشا”،وكم كان الموت وقحاً مثل لص ينشل جيوب المتقاعدين يوم إستلام صدقاتهم من وزير المالية، يوم عجز الكاشف عن التعرف على إصبعك بعد أن تيبست في الكفن،لهذا أبلغوك بمراجعة مكاتب دفن الموتى لتحصل على دفنة نموذجية تليق بوريث أبيك جلجامش وعمك أنكيدو،لكني لن أجرؤ أن أذكر عشتار إحتراما لصمتك هذه الليلة، كيف لمثلك أن يبقى نائما وعشتار تخطر أمامه مثل غزال مشوي أمام عيون أسد جائع حد الغربة،وموحش حدَّ أن الأرض وهبته نصف صوت ترابها بعد أن أعطت النصف الثاني لداخل حسن.
اليوم صباحا، ومن دون أي انذار، قال أصحاب الاخبار المفجعة بمواقع التواصل الاجتماعي ان عريان السيد خلف قد مات،انهم يتناقلون خبر رحيلك وكـأنهم يهدون إلينا خبرا سعيدا،ولايعلمون بان قلوب العراقيين تكره الخبر العاجل،من انفجار عبوة أوسيارة إلى انفجار دمعة بموت شاعر،تصبح العواجل شارات مرور لعبور حزين يحمل لافتة نعي تبدأ من أول جلجامش يلتحف السماء وحتى آخر عريان يلتحف التراب.
الآن تقترب الساعة من الثانية عشرة مساء أو ليلاً لايهمك أن تكون هذه الدقائق من ساعات المساء او الليل وأنت تودع صباح الدنيا لآخر مرة لتحجز لك طاولة ترابية لتنام في أول ليلة في فندق الآخرة، فقد صوتك بحَّتك، وتيبس القلم بين أصابعك، لم يبق لك من دفاترك القديمة غير كفن أبيض سينزل إليه البرد والمطر ليقول لك أن عبير الأرض مازال عراقيا،ستشمه ولكن لن تنتفخ رئتاك حين كنت تشم رقبة أنثى، أوحين يغمرك ليلها بنهارك وأنت تحسد روحك أن كوناً من الطين ينام في حضنك…. كما تنام الآن بين يديه.
هل أقول لك:تصبح على موت؟”وهم عدكم صبح يهل المكَابر؟”،ومافرق الليل عن الصبح وأنت هناك بين يدي خالق الأبجدية؟ومامعنى أن يملأ العمى عيونك؟والتراب صدرك،وأنت تعجز عن مدافعة الخوف بثيابك؟هل أقول كأسك التي شربت بها عمرين في حياة واحدة؟هل أقول قلبك الذي رثيت به العالم؟أي عالم تدخله الآن بكل شهرتك التي يعرفك بها الموتى قبل الأحياء؟الأخرة تحتفي بالشعراء كما تحتفي السلطة بالجلادين والسارقين ،لكني أتيقن أن الموتى سيسألونك عن وطن تركته قبل شمس قليلة،ربما سيرشحك الموتى لتكون دليلا سياحيا لمقبرتك التي سيتسع المكان بها في الفتحة العشرين بعد ان أعلنت مقبرة النجف إمتلاءها بأجساد العراقيين،كنا نصبِّر أنفسنا في وطن لايمكن له أن يعطينا سوى مقبرة تفهمنا السلام،بينما الحروب أعطت للجميع وطنا ينام في الفنادق والخنادق والبنادق، فأي غربة حين يتهمك القادمون أنك غريب عن وطن لايحلم فيه بنوه سوى بالمقابر؟
موتك كذبة علي أن أصدِّقها مثل غيري، نكَّذِبُ على أنفسنا أن الموت لايملك عيوناً،لكن موتك حين دخل دخل روحك من الباب وهرب من الشباك، خرجت لتضحك عليه بعد أن أخفيت نفسك عنه، أو ربما تصوَّرت أنه أخطأ العثور على مكانك، لكن حين خرجت حملوك والقوا بك في تابوت من خشب حمل قبلك الأف الأجساد التي حملت رائحة تبغك الساكن بين رئتيك، انت تصرخ بهم: مازلت حيا…لكنهم لن يصدقوا ان الأرض تتكلم بعد أن تهوي من جسر محمد القاسم وتبقى في العناية المركزة لستة اشهر، حتى تنظف رئتيك من النيكوتين…المقبرة بحاجة الى جسد لايحمل آثار النيكوتين،لايحمل اثار الخمر المغشوش بوطن كل بضاعته حزن أصلي، لايحمل تابوتا من خشب منخور، من شعر لايجبر كسر الخاطر.
انا بحاجة الى ٤٨ ساعة في اليوم لاقول لك اني حزين عليك ياعريان والجميع يتركونك وحدك خشية الظلام،ربما كان انقطاع الكهرباء عنا تمرينا لليل القبر الأظلم، وربما كانت الأحلام تجربة مختبرية لحضور منكر ونكير…وبعدها تنبلج الآخرة…سيسألانك مااسمك؟ ستقول لهم عريان!، سيقولان لك اكتب، تقول ماعندي قلم!، سيقولان لك قلمك اصبعك،ومدادك لسانك، وورقتك الأخيرة هي كفنك الأبيض…ستقول لهم وكيف اسحب كفني لاكتب عليه؟ سيقولان لك: انت جئتنا عريان وسوف تعود عريان!.
اليوم يتباهى الجميع انه التقط صورة معك وأنت تمر أمامهم، لكنهم لايعرفوا أن كثيرا من الليالي مازالت مقيمة بيننا،وكم من اللقطات كانت مطوية لاجل ان نحتفظ بها في حدقات عيوننا، كنت أكبر من إطار صورة تثبت ضحكة مثلما تفعل البحور الشعرية وهي تحتفظ بالصور الشعرية منذ امريء القيس وحتى آخر شاعر ينوح على ارض التراب.
أيها اللابس أحزان هذا الوطن المخروس، ياصوت الشطرة وهي تصدح بالنحيب في فواتح العراق، ايها الواقف بين الأمس والليلة، أيها الباكي بلادمع،والماطر ملح الشطرة فوق ارغفة العراق الماصخة، ياصبخة هذا الحزن الذي لم يشبع مثله جائعا…للبكاء، بصحتك أيها الهائم في دنيا البشر، ياكل قماش العازة، ياحائك أيام البازة، ياصوت الحادين، وياخمر الباكين، ياباب الحزن وأنين الحرف اللاطم، ياايها الراثي والمرثي، ياوجع الموجوعين، وياجنوب الله حين تختارك البوصلة لتشير الى كعبة حزنك، موجوع ياعمي وروح جدك، لكني موجوع منك إليك، مردود مثل بضاعة سوق كاسد لايوجد فيه ثمن للإنسان…ياايها الجنوب…ياشطري…ياابن سيد خلف…ياصاحب وحشة هذي الليلة…”الغيم مد إيده على راسك والمطر شد حيلة…الليلة اتنام دافي وتندفن وياه حرارة جيلة”…لكني أسال من للهور بعدك؟
ستجد الجميع واقفين وهم يرفعون لك قناع اكفانهم ترحيبا بالمدفون الأخير من قافلة الشعراء، سيقيمون لك حفل استقبال جنائزي: ستتعرف على وجوههم واحدا فواحدا، ناصر حكيم،وداخل حسن، حضيري أبو عزيز،طالب القرغولي،زامل سعيد فتاح،جبار الغزي،كاظم الركابي،كاظم الكاطع،ثامر ال حمودة،مطرب السعيدي،…ووووو….سيعزفون لك نشيد الموتى الوطني من دون نوتة موسيقية، انت تعلم ان النوتة الموسيقية محرمة في مقبرة السلام،سيعزفونها بصمتهم وانت تمر عليهم…كيف يمكن ان لاتحتفي مقبرة السلام بشاعر ولد عريانا وعاش عريانا …ويعود عريانا…وطن لعراة الضمير الذي كتب العراق على جبهته… لكنك لن تحمل سيجارتك هذه المرة، فالتدخين يضر بصحة الموتى!!…
بصحتك كأس الشاي المر بهذا الوطن الأحلى من الحنظل…اريد ان اتهدل عليك الليلة …”مثل ام ولد غركَان وابره الشرايع…”مخنوق كمن يغص بعظمة ثور…في وطن لايعطي بنيه سوى المسهل….
تصبح على شعر أيها الانيق مثل طالب حاز على شارة فارس الصف، لاتنس ان توقظ رياض الوادي الذي نام قبل أسبوع، ستحتاج الى روحه الساخرة وانت تعبر مقبرة العظام خشية ان تدوس على عظم ناتيء فيجرح روحك، سيدليك على مكان نومك…الاقدم منك بيوم يحزن اكثر منك بسنة…نفس الذين ذهبوا الى مأتمه سيذهبون الى مأتمك…نحن نفس الجمهور لكن الأبطال تبدلوا….
وداعة الله أبو خلدون.