د. علي المؤمن
تمثّل «منهجية المستقبلية الإسلامية – Methodology Islamic Futurism» أهم المخرجات العلمية لمشروع توجيه الرؤية الإسلامية نحو المعرفة المنهجية والأدوات العلمية. وهي تنقل الخطاب الإسلامي ومشروعه الحضاري من المنهج الايديولوجي الى المنهج العلمي، و ـ بتعبير أدق ـ هو الوجه العلمي لرؤية العقيدة في بناء الحياة الحضارية على كل الصعد.
وقد بدأ المشروع فكرةً ملحّة، على خلفية اهتمام معرفي متواصل بمنهجيات الدراسات المستقبلية، يعود الى مطلع التسعينات، وهي فترة عملي رئيساً لتحرير مجلة التوحيد الفكرية، وبالتزامن مع المشروع الأمريكي الذي أطلقه الرئيس جورج بوش في العام 1991 لبناء نظام عالمي جديد يستمر مائة عام، وهو نظام قائم على بحوث علمية واستراتيجية معمقة في مجال الاستشراف المستقبلي والستراتيجيا؛ فلم يكن المراد من هذا النظام صياغة خارطة سياسية جديدة للعالم وحسب، بل نظام يستوعب السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والتعليم والقانون والعلوم التجريبية وغيرها.
وكان باكورة نتاجاتنا في هذا المجال كتاب “النظام العالمي الجديد: التشكل والمستقبل” الذي صدر في العام 1992، ثم عدداً من الدراسات الاستشرافية، فضلاً عن دعوات للباحثين ونخبة الأمة للاهتمام بالدراسات المستقبلية وضرورة أسلمتها، نشرتها في بعض الدوريات.
ثم تحوّل هذا الاهتمام والانتاج الشخصي إلى مشروع مؤسسة متخصصة بالدراسات المستقبلية في العام 1998، ولا سيما المستقبليات الإسلامية، حمل اسم “المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية”، والذي تحملتُ مسؤولية إدارته ورئاسة تحرير إصداراته. فكان المركز حاضنة مشروع التأسيس لرؤية إسلامية نظرية شاملة لموضوع استشراف المستقبل ودراساته، و أسلمة مناهج الدراسات المستقبلية الغربية وآلياتها، وصولاً إلى اختيار منهجية مستقلة تتلاءم والنظرة الإسلامية. في بعديها الفلسفي والعقدي.
و لذلك كان المشروع ينطوي على بلورة أدوات مختلفة في التفكير، لنسمِّها ما شئنا: نظرية.. منهجية.. رؤية.. أو أية تسمية أخرى. وقد حملت هذه المنهجية اسم «المستقبلية الإسلامية – Islamic Futurism»؛ لتكون لصيقة بمضمونها.
وقد حظي المشروع برعاية العلامة المرحوم الشيخ مهدي العطار، وآية الله المرحوم السيد محمد حسين فضل الله، والعلامة الشيخ محمد علي التسخيري.
و بادرنا إلى الطلب من عدد من أبرز الرموز الفكرية العربية والإسلامية، للإشراف على المشروع العلمي للمركز. ولذلك؛ تشكلت هيئة علمية استشارية للمركز، من شخصيات تحمل اختصاصات متنوعة؛ كالشريعة والقانون والاجتماع والتاريخ والمستقبليات والفلسفة والسياسة والاقتصاد، كالدكتور جمال الدين عطية والدكتور أحمد كمال أبو المجد (مصر)، الشيخ وهبة الزحيلي (سوريا)، الشيخ محمد علي التسخيري والدكتور محمد علي آذرشب والسيد هادي خسروشاهي (إيران)، السيد محمد حسن الأمين والدكتور سمير سليمان والدكتور طلال عتريسي (لبنان)، الدكتور أحمد صدقي الدجاني و الدكتور منير شفيق (فلسطين)، الدكتور حسن مكي (السودان)، الدكتور طه جابر العلواني والدكتور عبد الجبار شرارة والدكتور عادل عبد المهدي (العراق)، الشيخ عبد العزيز الخياط (الأردن)، الشيخ عبد الهادي الفضلي (السعودية) وغيرهم. رحم الله الراحلين وحفظ الأحياء.
وكان تفاعل نخبة المفكرين والمثقفين والباحثين والأكاديميين العرب والمسلمين، مع مشروع المركز وفكرته ومنهجه، مميزاً وملفتاً للنظر، مما شكّل دافعاً آخر للسير قدماً بكل ثبات وإصرار باتجاه تحقيق أهداف المشروع؛ برغم ضعف الإمكانات وضآلة أدوات العمل. وأحتفظ بأكثر من (500) رسالة وصلت المركز من هذه النخبة ومؤسساتها خلال السنوات الثلاث الأولى من العمل (1999 – 2001)، وهي تتضمن استعداداً للتعاون، وحثاً على مزيد الإنتاج؛ لأن المركز ـ كما كانوا يؤكدون ـ هو الأول من نوعه عربياً وإسلامياً.
و عمل المركز على تكوين قاعدة معلومات للمؤسسات والشخصيات العربية والمسلمة والعالمية المتخصصة أو المهتمة بموضوع الدراسات المستقبلية، في إطار خطة مخاطبتها والتعاون معها. وكان هذا العمل بذاته إنجازاً مهماً. ولم نفاجأ حين اكتشفنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تضم أكثر من (1200) مؤسسة ومعهد وقسم جامعي؛ متخصص في الدراسات المستقبلية، فيما تضم أوروبا ما يقرب من (700) مؤسسة، بينها وكالات حكومية، كما هو حاصل في السويد. أما نصيب الدول العربية بمجموعها، فهو مراكز هامشية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
وقد شرع المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية بتحويل خطة عمله العلمية والبحثية إلى نتاجات منشورة، فكان الإصدار الأول: دورية اتجاهات مستقبلية (Futuristics) الشهرية التوثيقية، ابتداءً من آذار 2000. ثم صدر العدد الأول من مجلة المستقبلية (Futurism) الفصلية في ربيع عام 2001، وهي محكمة متخصصة بالدراسات المستقبلية وقضايا الفكر الإسلامي المعاصر والمستقبلي.
وقوبلت مجلة المستقبلية بردود فعل داعمة كبيرة من أصحاب الإختصاص والاهتمام والمسؤولية؛ وبعضهم رموز فكرية شهيرة، فضلاً عن إشادات مؤسسات علمية عالمية ذائعة الصيت. و من الشهادات الملفتة في هذا المجال ماقاله الفيلسوف المغربي البروفسور طه عبد الرحمن لطلابه في مرحلة الدكتوراه خلال محاضرته، وهو يلوح بالعدد الأول من مجلة المستقبلية: (( الأمة التي تريد أن تتقدم وتبني حاضرها ومستقبلها، تنتج هذا الفكر )).
وفي المقابل كانت هناك ردود فعل باردة تجاه المشروع، حتى أن مرجعاً فكرياً كبيراً وصف موضوع المشروع بأنه «أدبيات ترفيّة». ربما لأن موضوع الدراسات الاستشرافية وعلوم المستقبليات هو موضوع بكر في الساحة العربية والإسلامية، وأن مركزنا هو الأول من نوعه على المستوى العربي والإسلامي.
ولا شك أن ضعف الوعي في موضوع الدراسات المستقبلية و ندرة المتخصصين والباحثين العرب والمسلمين فيه، و لا سيما الدراسات ذات المنهجية الإسلامية، كانا أهم المشاكل التي تواجهنا، لكن الذي كان يبعث الأمل ويزيد الاعتزاز بالمشروع هو انفتاح كثير من الباحثين على الدراسات المستقبلية الإسلامية، إلى الحد الذي جعلنا متفائلين ببروز عدد من الباحثين المستقبليين خلال بضع سنوات.
وبالفعل صدرت في السنوات اللاحقة مجموعة من الدراسات والكتب والأطروحات، وتحديداً في العراق وسوريا ولبنان، وقد استخدم كثير منها مصطلح «المستقبلية الإسلامية» والأدبيات الخاصة بفكرتها ومنهجيتها، وبينها أطروحة دكتوراه حملت العنوان والمنهجية نفسيها، ولكن كاتبها لم يشر إلى مشروعنا؛ رغم أن منهجيتنا (المستقبلية الإسلامية) شكّلت بنية بحثه، وقد اقتبسها حرفياً في الإطار النظري للأطروحة وبنائها المنهجي. وقد عذرنا الباحث وغيره، لأن هدفنا هو نشر الوعي بالدراسات المستقبلية العربية والإسلامية، وأهميتها وضرورتها؛ وليس تسجيل ملكية فكرية أو براءة تأسيس منهجية فكرية، بالرغم من أن الأمانة العلمية تقتضي الإشارة إلى مصادر الاقتباس.
وخلال الفترة التي أعقبت تجميد المركز أعماله، وتحديداً بعد صدور العدد الثالث من مجلة المستقبلية في خريف العام 2004؛ ظلّ بعض المختصين والمهتمين يلحّون على ضرورة إعادة طباعة إصدارات المركز، ولا سيما مجلة المستقبلية، الأمر الذي دفعنا إلى اختيار مجموعة من البحوث والدراسات، وإعدادها للنشر مرة أخرى؛ لتصدر في أربعة مجلدات في العام 2017 عن دار روافد في بيروت. و قد حملت هذه الكتب العناوين التالية:
1- «أسلمة المستقبليات: محاولة علمية للإمساك بالمستقبل الإسلامي»
2- «المستقبلية الإسلامية: نحو منهجية إسلامية لبناء غدٍ أفضل»
3- «من المعاصرة إلى: الفكر الإسلامي واستدعاءات المستقبل»
4- «تجديد الشريعة: إمكانية معارف الشريعة الإسلامية على التحول».
ولعلها من أهم البحوث المعاصرة في مجال تجديد الفكر الإسلامي، وتعزيز الخطاب الإسلامي العلمي المعاصر، والتأسيس للمنهجية الإسلامية في استشراف المستقبل والاستعداد له ومحاولة الإمساك به، عبر وسائل التخطيط الاستراتيجي والاستشرافي.