اياد الجيزاني
مقولة يرددها الكثيرين الشك يؤدي الى اليقين و لا توجد يقينيات و اكيدات ، تُصاغ تلك المقولات في حماس و اندفاع و يتم ترديدها بصورة ببغاوية حتى اني كنت من ضمن المرددين لها و كنت اقتنعت بها و باعتقادي انها انما تنبع و تعبر عن حالة وجدانية تتمثل في تغير المواقف و الالتزامات الفكرية نتيجة لتطور فكر الانسان و نمو وعيه او حتى ارتكاسه و تراجعه ما يجعل الانسان يعتقد ان الحقيقة في تغير دائم و ان الشك مفتاحها.
و الحقيقة ان مقولة ان الشك الدائم في البحث عن الحقيقة يمكن ان نعبر عنه بصورة اخرى بموضوعة التساؤل الذي لا يكف
فالتساؤل يجعل الحقيقة في ثراء و اغتناء و يمنحها افاقاً جديدة.
التحولات و المراجعات الفكرية تمثل وجهاً من وجوه البحث عن الحقيقة و تراجعاً عن افكار كانت بمثابة الثوابت.
ان الاخذ بمقولة الشك الدائم و عدم ثبوت الحقيقة و ان الحقيقة في صيرورة دائمة هو بمثابة الوقوف على ارض رملية تغوص بالانسان كلما تحرك و حاول التملص منها .
ان ذلك يعني انك حين تعتقد انك تمسك بالحقيقة فأنك في ذات الوقت لا تمسك بها و هذا يعني انك ستقضي عمرك في البحث عنها و لكنك طبقاً لهذا الفهم لن تجدها لانها سيالة كما يصفها البعض.
ترى ما هو المنبع لهذه الافكار عن الحقيقة و الشك
بأعتقادي ان رحلة كل انسان بما هو فرد في البحث عن الحقيقة تواجه الكثير من العقبات و التحولات و التغيرات و وضوح و غبش و انسداد و انفراج و تقلبات شتى وهكذا و هذا ما يجعل الانسان يخضع لنتيجة ان الحقيقة لا يمكن ان تُنال و ان الحقيقة تكمن في الشك لأن التقلبات و التحولات تلقي بظلالها على نفسية الباحث و تؤثر في وجدانه و تجعله يعتقد ان الحقيقة لا تُنال ما دام لم يستطع نيلها و ما دام يعيش كل يوم كشفاً جديدا يغير قناعاته و يدكدك مبادئه.
الحقيقة الوحيدة التي تصمد خلال هذه العملية هي ان الشك هو ركن الحقيقة الركين و اسها العميق فلا يمكن لمدارك انسان ان تمس الحقيقة ما دامت سيالة متغيرة.
فمثلاً حين تملي ورقة ما و تعود اليها بعد يوم مثلاً ستغير فيها و لو عدت اليها بعد اسبوع ستغير فيها و هكذا ستكون هذه المسودة مستمرة التغير و التبدل ما دام الانسان حياً ، ان ذلك يكشف ان الحقيقة ليست سيالة و متغيرة بل ان ذلك في عمقه عائدٌ الى آلية التفكير التي تعتمل في عقل الانسان و آلية الادراك المعقدة و هي بأعتقادي تمر بمراحل عديدة هي
- الُمدرك
- آلية الادراك
- عملية الادراك
- نتيجة الادراك
ان اي خلل في واحدة من هذه المراحل يمكن ان يؤدي الى خلل في النتيجة و بالتالي في الحقيقة التي نتوصل لها
لا يمكن اغفال العوامل الكثيرة جداً التي تؤثر في مجمل عملية الادراك و تجعل من الوصول الى يقينيات و جزميات امراً متعذرا او شبه متعذر
فألعوامل النفسية و فقدان و ضعف الحواس ونقص و ضعف المعطيات و غيرها كلها تؤثر في هذه العملية و تعطي نتائج مشوهة و بعيدة ربما عن الحقيقة.
ان اسوأ اشكال المعرفة التي قد نصل اليها هي تلك التي لا تعترف بالحقيقة و تجعل منها خيالاً محضاً لا وجود له .
الحقيقة هي انك لا تستطيع ان تحاكم اي انسان الا في ضوء نظرية المعرفة التي يؤمن بها ويتوثق بها في ادراكه .
باعتقادي ان عملية البحث عن الحقيقة لا تعني الشك الدائم في قبال اليقينيات و الجزميات بل انها عملية ال(تساؤل) الدائمة التي تغذيها الروح الساعية نحو الكشف و الاستكناه الموجودة في عمق النفس الانسانية هناك حب استطلاع و حب كشف فالانسان تائقٌ للتعرف و لا يهدأ له بال حتى يعرف ، ان هذا التأول باعتقادي افضل من مقولة الشك الدائم و أدق منها.
كما ان الحقيقة ليست ذات وجوه كما يعتقد البعض بل ان الحقيقة يمكن وصفها بأنها على شكل طبقات البعض يزيح طبقة واحدة و الاخر يزيح اثنتين و هكذا كلما ازحنا طبقة تبدت الحقيقة اكثر دقة و انصع بياضاً و اكثر وضوحاً من الطبقة السابقة و لذلك نجد هذا التعبير في فهم القراءن اذ يرد في النصوص ان للقراءن سبعة بطون و ينبغي الالتفات هنا الى ان اي بطن او طبقة كما عبرت ستحجب عنك البطن او الطبقة اللاحقة لها لهذا تبدو الحقيقة متغيرة و لهذا تبرز الاختلافات في الرؤية فمقولة ان الحقيقة ذات وجوه متعددة لجوهر واحد ليس صحيحاً تماماً في ضوء هذا الفهم.
اتذكر موقف جميل استوقفني كثيراً اذ كان من عادتي ان اصعد الى سطح المنزل لاتأمل الغروب و اصور مناظر السماء الجميلة في بعض الاحيان ولقربنا من المطار كان منظر الطائرات يجذبني في بعض الاحيان و ذات مرة صورت منظراً تظهر في الطائرة صغيرة جداً بحيث انها لا تظهر للمشاهد العادي و ادركت حينها انك يمكن ان تصف الصورة كما تراها و لكنك ستغفل امر الطائرة لأنك لا تراها لصغرها ، اقتربت بعد ذلك عدة خطوات بأتجاه مشهد الغروب الذي صورته و لاحظت وجود حشرات صغيرة جدا تطير بصورة دائرية حول شيء ما و كانت تلك الحشرات يفترض ان تكون في افق الصورة اي انها ينبغي ان تظهر في الصورة التي التقطتها الا انها لصغرها لم تستطع كاميرا الهاتف التقاطها
ما يعنيني من ذلك كله ان هناك ما هو ادق من الطائرة لم تظهره الصورة مع انه موجود فالحقيقة فحين يصف شخص ما صورتي بأنها تظهر غروب الشمس مع شيء من الغيوم فأنه يكون محقاً
في حين ان من يضيف وجود جسم صغير او طائرة في الافق سيكون محقاً ايضاً و لكنه ادق من سابقه
اما من يرى تلك الحشرات في الصورة على صغرها البالغ سيكون اكثر دقة من الاثنين السابقين من دون ان يكون السابقين مخطئين.
٩-١١-٢٠١٨