محمد أبو النواعير*
تُعتبر حياة الإمام الحسن ابن علي ابن أبي طالب عليهما السلام، محورا مهما ومفصليا في تراتبية المشروع السماوي, الذي أراد تثبيت أسس الدين الإسلامي, وترسيخه كوعي جماعي, ووعي ثقافي مجتمعي، لذا نجد أن مقدار حملة التشويه والتضليل التي رافقت هذا الإمام، في حياته, وبعد استشهاده، أخذت منحى مألوفا في أدبيات الصراع الخالدة بين مشروع الإغواء الشيطاني, ومشروع النصرة الإلهية.
الصلح الذي أقيم بين الإمام الحسن عليه السلام, ومعاوية ابن أبي سفيان, كان يحمل في ظاهره قراءات إختصت بوعي وثقافة وأدبيات أهل ذاك الزمان, لذا جاء التقييم لهذا الصلح في ذلك الزمن تقييما سلبيا آنيا, إتخذ من المنهج العمودي مسارا له, في زمان لم تتوفر فيه كثيرا، أدوات وأطر التفكير الأفقي الذي يخترق حاجز الزمان والمكان, أو ما بات يعرف في زماننا الحاضر (التفكير السياسي الاستراتيجي).
تشير إيرن ساندرز في كتابها (Strategic Thinking and the New Science)، إلى ان العالم مكون من أنساق ديناميكية غير خطية، وهذه الأنساق وإن كانت تبدو في حالة فوضى، إلا أن هناك نظاما يحكمها (أي هيكلا معينا)، والذي يجب فهمه للتحكم بالواقع وتغييره, وهذا يفرض على أي صاحب مشروع استراتيجي أن يبتعد عن ثلاثة أمور : 1- النظر لمعطيات الحدث من خلال رؤى بسيطة وثابتة للسبب والنتيجة بظرفها الآني, والتي تكون ناتجة عن إطار أو نسق ثقافي واجتماعي يتحكم بأدوات تفكير أهل أي زمان ومكان. 2- الاعتقاد بإمكانية تقييد أو تحييد كافة المتغيرات الموجودة في موقف معين, وهذا الخطأ في تقييم المواقف نابع من فكرة بشرية محدود مفادها إمكانية تحقيق المعرفة الكاملة، لكل المتغيرات الموجودة في موقف معين وضرورة التعاطي معها بموجب تلك المعرفة (المحدودة). 3- ضرورة التخلي عن رؤية ضرورة الالتزام بالأطر الفكرية المحدودة, والتي تكون عادة في الحالة البشرية, نابعة من عوامل منها التنشئة الاجتماعية، العادات والتقاليد التربوية والأعراف المتحكمة بمفهوم الوعي والثقافة, والتي تقود كلها لأطر فكرية تجمد في إطار ذاك النسق ببعده الزماني والمكاني.
إذا أردنا أن نقرأ صلح الإمام الحسن, بحسب ضوابط التفكير الإستراتيجي البعيد الأمد, والذي يتحرك عادة بأطر ومساحات, يصعب على أهل ذاك الزمان معرفة مواردها, نجد أن صلح الإمام الحسن عليه السلام, جاء كخطوة ولبنة أولى لتحطيم المشروع الأموي, بل كان هو المهيأ والمشرعن لقيام ثورة الإمام الحسين عليه السلام, وعشرات الثورات التي قامت بعد ثورة الإمام الحسين, للإطاحة بمنظومة الحكم الأموي التي أريد لها أن تستمر, وتكون كسرطان هدم محترف لأسس وأعمدة الدين الإسلامي, حيث أن صلح الإمام كان يعني أن يكون معاوية خليفة للمسلمين, بشروط, وكانت أهم هذه الشروط هو شرط انتقال الخلافة من معاوية إلى الإمام الحسن أو أخيه الحسين بعد وفاة معاوية, أي انتقال شرعية قيادة الأمة من عهدة معاوية .
الإمام عليه السلام كان يعلم جيدا بأن معاوية سيخلف وينقض, وهذا هو مطلب الإمام ! وهذه هي الضربة القاصمة, لأن نقض العهد من قبل الإنسان العادي هو مرفوض وبشدة شرعا وذوقا, فكيف والحال أن نقض العهد سيكون من قبل مدعي الخلافة الإسلامية, وفي نفس الوقت إن قبول معاوية بهذا الشرط, معناه التأسيس لعدم شرعية أي من الحكام الأموين الذين جاؤوا من بعده, لذا كان المبرر الشرعي والقانوني لثورة الإمام الحسين عليه السلام حاضرا عند خروجه للثورة ضد الحاكم الغير شرعي يزيد (بإقرار معاوية الذي قبل شروط الصلح), بل وأن ذلك أسس لشرعية كل الثورات والانتفاضات التي قامت بعد ثورة الإمام الحسين عليه السلام، حيث بقي الحكم الأموي مرتبكا في أركان شرعيته, وهنا حقق الإمام الحسن بعده الإستراتيجي في هذه الخطوة.
إن مفهوم الشرعية في الحكم، تعتبر من أهم وأعمق المفاهيم والإشكالات التي تطرق لها الفكر السياسي البشري خلال التأريخ, فضرب شرعية وجود ممثلين للدين على سدة الخلافة, إنما يعني ابتعاد الكثير من المسلمين عن هذا الخط, وعدم ثقتهم بما كان يصدر منه أحكام دينية بعيدة عن الإسلام ومشوهة له، وهذا هو الهدف الأهم لدى الإمام الحسن, إذ أنه لو لم يعقد معاهدة الصلح و(يفرض) هذه الشروط على معاوية, لكانت عملية تسليم الخلافة أمر عادي, يمر خلال التأريخ, دون أن يتمكن من فضح المنهج الأموي المعادي للدين, والهادم لأسس الإسلام.
إذن، سلب الشرعية، سيقود إلى تهيئة المبرر الديني والقانوني للقيام بثورات، تقود بالنتيجة إلى جو إعلامي مفعم بفضح الإنحراف الذي سيحصل بشكل مستمر، ويقود أيضا إلى ابتعاد الوعي الإسلامي عن الخط الأموي، والبحث عن الخط الذي يمثل الإسلام والدين الصحيح، وهذه ضربة استراتيجية حكيمة من قبل الإمام، وجهت لأسس الدولة الأموية، وهدمت مشروعهم على الأمد البعيد، وما كان لها أن تكون, لولا وقوع الصلح, وفرض شروطه !
على الصعيد التكتيكي، كان صلح الإمام الحسن عليه السلام يحمل في طياته مناورة مهمة، الهدف منها هو إفساح المجال (ولو كان ببعد زمني يمتد لعقود أبعد من مقدار حياة الإمام عليه السلام) لإعادة هيكلة الوعي الإسلامي، من خلال إفساح المجال لدعاة الدين الأصيل، أن يقوموا بواجبهم في تبيان أسس هذا الدين العظيم, وتثبيت أركانه، لأن أقطاب المكر الأموي كانوا يعلمون جيدا، أن إشغال أي مشروع جديد بحروب مستمرة, إنما يعني هدم لأسس هذا المشروع (الأسس التثقيفية, والإجتماعية, والفكرية, والسياسية, والإقتصادية)، خاصة وأننا نعلم أن الرسالة الإسلامية، قد حوصرت بحروب مفروضة عليها منذ زمن النبي ص إلى إنتهاء عهد الإمام علي عليه السلام، فكان صلح الإمام الحسن عليه السلام، ضربة موجعة لهذا المخطط، خاصة وأنه عليه السلام كان يعلم جيدا أن مرحلة أخيه الإمام الحسين عليه السلام, ستكون مرحلة سيف وجهاد، فأراد أن يعطي فسحة راحة للجمهور المسلم، ويعطي مجال لأن تهيء الثقافة الإسلامية النفوس لثورة الإمام الحسين عليه السلام, ولعشرات الثورات التي أتت بعدها, فكان صلح الإمام الحسن عليه السلام, سِلمٌ بين سيفين !
الهدف التكتيكي الآخر الذي عمد إلى تحقيقه الإمام الحسن عليه السلام في صلحه مع معاوية, هو إشغال الفكر الأموي الدخيل على الدين الجديد، بالحكم وشواغله ومؤامراته، فإشغال معاوية والجهاز الأموي بمنغصات الحكم، والبحث عن سبل تثبيته، أعطى للدين الإسلامي وحملته فسحة من المجال والتنفس، لكي يثبتوا دعائمه, بينما لو إستمرت الحروب في عهد الإمام الحسن، لبقي العداء موجها مركزا نحو الدين، ومحاولة إيجاد أفضل السبل من أجل تهديمه، وتحطيم صورة أئمته ورجالاته في نفوس الناس, كما فعل معاوية بسن سنة سب الإمام علي عليه السلام، فإشغال الماكنة الأموية بالحكم، أفسح المجال واسعا لحملة الدين ودعاته، أن يفضحوا بني أمية ومشروعهم، وأن يكونوا قوة معارضة (لا قوة منافسة)، ولكي يتمكنوا من نشر الدين الإسلامي الصحيح بسماحته لا بعدوانية دين بني أمية .
فكان من بني أمية داعش, وكانت منا المرجعية الرشيدة ..
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرس السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.