هادي جلو مرعي
ليس جديدا على التاريخ أن يصنع عجائبه في المدن المنسية، وتلك المسحورة، أو المدحورة، أو المهمشة والمقصية زمانا ومكانا، ومسافات. فيتم تدوين الحكايات والأساطير والأعاجيب، وروايات المحبين، وثورات المجانين واليائسين بطرق كتابة مختلفة، فمرة يكون الحبر دما، وأخرى فحما، وثالثة حبرا قراحا، وليس مغشوشا. وعند شح الحبر يلجأ الناس الى دمائهم ليدونوا بها عذاباتهم وإنجازاتهم، ومرة الى الفحم، ومرات الى الصدفة علها تنقل الحدث الى المستقبل، وتحفظ لهم إرثهم.
وعلى غير العادة فربيع العراق قد لايأتي من شماله، لامن أربيل، ولامن الموصل حيث الجبال والشلال والمياه النازلة والخضرة المتجددة، هاهو هذا المرة يأتي من البصرة التي تضربها ملوحة الخليج، وقساوة رياح المنخفض الهندي الحراري البشع، وتيارات الباحورة الموغلة في الدبق واللزوجة والعطش، وإنهيار الذات مع فقدان الأعصاب، وإنقطاع التيار الكهربائي، وإنعدام مياه الشرب، وإذا توفرت يأنفها حتى الكلب اللاهث في ظهيرة قاتلة.
أوف… ياترى هل هو منافق ذلك المغني:
مركب هوانا من البصرة جانه
جايب حبيب الروح عندنا أمانه
أو لا هو ليس كذلك، بل الزمن والناس والحوادث هم صناع النفاق، وقتلة الحياة، ولذة الأشياء، وتحت سياطهم تتحول القبل إلى نفثات حزن، وتكون الأجساد المشتهية ذبائح يقدها ساطور الذباح الماهر، هل يعقل أن المغنين والعشاق مازالوا يغنون للبصرة، وهل يعقل أن ذلك المغني الذي دفنته (فاتنة الشاشة آسيا كمال) في مقابر (المدائن) خلسة كان في كامل وعيه حين غنى:
يامدلولة شبقى بعمري غير الألم والحسرة
جسمي عايش ببغداد وروحي ساكنة البصرة
البصرة الغنية بالنفط، والموغلة في التاريخ، وأول المدن العصية على أن تنسى، وام الموانيء العتيقة تعاني من شحة المياه، وإنقطاع الكهرباء، والملوحة، والحرارة الموغلة في القسوة تتظاهر على عذاباتها، وتناجي إنسانيتها المحبوسة في سجون الغفلة، وتصنع ربيعها الذي يسير بإتجاه معاكس. تبحث عن الكرامة في أودية الإهانة. تصنع الربيع، وترجوه أن لايغادرها فيغني لها الولد المدلل الذي يجري خلف بنات الناس:
أحيا وأموت عالبصرة خلت بكليبي حسرة
أحيا وأموت عالبصرة عيني البصرة