الدكتور / علي الدلفي
أذكرُ ما قالهُ الكاتبُ الفرنسيّ (ألبرت كامو): (إنَّ المُثقّفَ هو الشّخصُ الذي لديهِ عقلٌ يراقبُ نفسَهُ) ان عددًا كبيرًا من المُفكّرينَ وجّهوا التّوبيخَ تلوَ الآخرِ للمُثقّفِ (الكاتبِ؛ والأديبِ؛ والسّياسيّ؛ والفنان؛ والقارِئ؛ والأستاذِ الجامعيّ؛ والنّخبويّ؛ والإعلاميّ؛..وهلمَّ جرَّا) الذي تخلّى عن رسالةٍ أخلاقيةٍ افترضَ؛ مسبقًا؛ أنّه منذورٌ لأجلها، وعن ممارسةِ أهمِّ مسؤولياتهِ في (النّقدِ؛ ونقدِ النّقدِ؛ والنّقدِ الثّقافيّ والفكريّ والسّياسيّ والاجتماعيّ)؛ وهي الوظيفةُ الرَّئيسةُ للمُثقّفِ؛ والتّحلّي بالشّجاعةِ والمسؤوليّةِ، خاصّةً في ظلِّ الاحترابِ الفكريّ الذي يجعلُ الأمورَ مُلتبسةً، ويصبحُ (الرّأيُ فوقَ شجاعةِ الشّجعانِ)، كما يقولُ المتنبي.
وَمِنْ أهمِّ المُفكّرينَ الذين عالجوا هذا الموضوع بحثيًّا؛ هـــم: المفكّرُ والرّوائيُّ الفرنسي (جوليان بندا) الذي أطلقَ صرختَهُ في وجهِ المُثقّفين الذين استهوتهم وتستهويهم مغرياتُ السُّلطةِ والجاهِ والمالِ فتقودهُمْ للانحيازِ لمصالحِهِمْ الأنانيّةِ السّياسيّةِ والنّفعيّةِ على حسابِ دورهِمْ ومسؤولياتهِمْ الأخلاقيّةِ و النّضاليّةِ.
جاء كتاب (بندا) هذا صادمًا من عنوانهِ الذي حملَ اسم (خيانة المُثقّفينَ) الصّادر عام (1927). وَمُنْذُ ذلكَ الوقتِ صارَ مصطلحُ (خيانةِ المُثقّفينَ) يرمزُ للإشارةِ إلى تخلّي المُثقّفينَ عن استقامتهِمْ الفكريّةِ وانتهازيّةِ الكثيرينَ منهم. ثُمَّ ناقشَ الكاتبُ الأميركيّ (راسل جاكوبي) في كتابهِ (آخر المُثقّفين) الصّادر عام (1978) تراجعَ دورِ المُثقّفِ في الحياةِ العامّةِ، وتخلّفِ تأثيرِهِ في المجتمعِ. وتحدّثَ النَّاقدُ الفلسطينيّ (إدوارد سعيد) في كتابهِ (صور المُثقّف) عن الصّورةِ الأخلاقيّةِ المُفترضةِ للمُثقّفِ. (علمًا أنّ هذا الكتاب قَدْ صدرتْ طبعتهُ الإنجليزيّةُ عام 1994؛ وطبعتهُ العربيّةُ عام 1996). وَقَدْ ألّفَ الكاتبُ البريطانيّ (فرانك فوريدي) أستاذُ علمِ الاجتماعِ في (جامعةِ كينت) كتابًا بعنوان: (أينَ ذهبَ كُلُّ المُثقّفينَ؟) عام (2004).
(أينَ ذهبَ كُلُّ المُثقّفينَ؟) سؤالٌ يفرضُ نفسهُ حينَ تصبحُ النُّخبةُ المُثقّفةُ مُنساقةً خلفَ أهوائِهَا وتحزّباتِهَا الفكريّةِ والطّائفيّةِ؛فإنّها تفقدُ رسالتَهَا الأخلاقيّةَ، بَلْ إنّها تتحوّلُ إلى عاملٍ هدّامٍ ومُدمّرٍ للدورِ التّقدّميّ والتّعارضيّ الذي تقومُ بهِ الثّقافةُ وينهضُ بهِ الفكرُ.
منْ يُصدّقُ مُثقّفًا أو كاتبًا يسوّغُ ويبرّرُ العمالةَ والفسادَ والحيفَ الاجتماعيّ والنّهبَ للمالِ العامِّ؛ لمجردِ أنَّ (زعيمَهُ) مدحهُ بعبارةِ: (إنتَ مُثقّف)! وتبقى هذهِ العبارةُ (دينًا في رقبةِ هذا المُثقّفِ أوْ ذاك)!
وهَلْ يحتاجُ (المُثقّفُ) أنْ يُقالَ لهُ: (إنتَ مُثقّف)؟!! وماذا بَقِيَ مِنْ (مُثقّفٍ) حُرٍّ أخذتهُ العزّةَ بالإثمِ فراحَ يتغاضى عن العمالةِ والخيانةِ ورهنِ البلادِ وضربِ سيادتها وانتشارِ الفقرِ والفسادِ؟!
إنَّ خيانةَ المُثقّفِ لأفكارهِ الرّاسخةِ السّابقةِ الحُرّةِ كالمرأةِ التي تخلّتْ عنِ الشّرفِ واختارتِ العَارِ.
ويبقى الفرقُ بَيْنَ ظاهرةِ التّغيّرِ والمُراجعةِ الفكريّةِ المقبولةِ؛ وخيانةِ ما قالهُ أو كتبهُ الإنسانُ سابقًا، خصوصًا؛ إذا كانتِ الخيانةُ تلكَ ستنعكسُ آثارهَا على واقعِ الأمّةِ والمُجتمعِ لِتُرهنهُ؛ أوْ تُدمّرهُ؛ أوْ تُفسدهُ؛ أوْ تُجوّعهُ؛ أو تُنثرهُ؛ أوْ تشتّتْ وحدتهُ.
فَهَلْ نضعُ جريمتهُ في قولِ ملكةِ بريطانيا (إليزابيث الأولى) مُنْذُ أربعةِ قرونٍ (في الثّقةِ وُجدتِ الخيانةُ)؛ فيتحسّر على فجيعتِهِ في الثّقةِ التي منحها له شعبُهُ؛ لوطنيتهِ وإخلاصهِ وحُسنِ نواياهِ والتي باعها بأبخسِ الأثمانِ طمعًا في السُّلطةِ والمالِ؟
أوْ نُصنّفُ أقوالهُ بأنّها تخرجهُ مِنْ زُمـــرةِ المُثقّفينَ المُلتزمينَ بحدودِ الثّقافةِ؟!
وعندما نتذكّرُ ما قالهُ الكاتبُ الفرنسيّ (ألبرت كامو): (إنَّ المُثقّفَ هو الشّخصُ الذي لديهِ عقلٌ يراقبُ نفسَهُ)؛ نتأكّدُ أنَّ تصريحاتهُ؛ وشهادتهُ بحقِّ (زعيمهِ) تُشيرُ إلى أنَّ عقلَهُ قَدْ اغتالَ نفسَهُ بدلًا مِنْ مُراقبتِهَا.
ولكنّي؛ دائمًا؛ أتذكّر ما قالهُ (فلاديمير لينين) حينَ وصفَ (المُثقّفينَ) بأنّهم: (أقربُ النّاسِ إلى الخيانةِ)؛ ولهذا لا أستغربُ مِنْ: (أينَ ذهبَ كُلُّ المُثقّفينَ؟)!
ليكن هذا المنشور ناقوس الخطر الذي يدّق لايقاظهم من غفوتهم أو إنْ أصرّوا على #خياناتهم يصبح إعلاناً عن انتحارهم الاختياري وصوت المؤذن الذي يعلن على أنّ صلاة جنازتهم قد حلّت