الإقتصاد العراقي نحو الانهيار وسط تبادل الاتهامات بين الحكومة والبرلمان

0 212

فرهاد علاء الدين

في جلسة صاخبة يوم 7 أيلول 2020 حضرها وزير المالية وكبار موظفيه ورئيس وأعضاء اللجنة المالية البرلمانية بحضور كل من رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب، احتدم النقاش بين وزير المالية ورئيس اللجنة المالية حول السياسة المالية الحكومية، عندما طالب وزير المالية بضرورة موافقة البرلمان على قروض جديدة لتسديد الرواتب والمصاريف التشغيلية للحكومة، قابلها استفسار النواب عن الخطوات العملية التي تقوم بها الوزارة لسد العجز وتقليل المصاريف وزيادة الإيرادات. 
وتخلل النقاش تبادل الاتهامات التي بلغت حد التراشق الكلامي، والتي وجدت طريقها الى معظم الفضائيات بوصفها مادة مثيرة تَسيّدَت العناوين الرئيسة، في حين غضت البصر عن أصل الموضوع وجوهره والمتمثل بالأزمة المالية الخانقة التي تواجه البلد.
غبار الجلسة الصاخبة لم ينقشع ليواجه وزير المالية (برفقة وزير التخطيط) مجلس النواب بأكمله في جلسة أستُدعيا اليها للإجابة على سؤال شفهي من عضو اللجنة المالية محمد الدراجي حول أسباب عدم تقديم ورقة الإصلاح الحكومي الواجب تقديمها بعد إقرار قانون الاقتراض الداخلي والخارجي في 24 حزيران الماضي لتمويل العجز المالي لعام 2020، حيث نصت المادة السابعة: “على مجلس الوزراء تقديم برنامج للإصلاح الاقتصادي الى مجلس النواب خلال فترة لا تتجاوز 60 يوما من تاريخ إقرار هذا القانون”.
وزير المالية من جانبه أفاد بأن الورقة ستكون جاهزة في منتصف شهر تشرين الأول القادم، كون الورقة بحاجة الى عمل كبير وان نحو “40 خبيرا يعملون على اعدادها”، كاشفا عن أن عملية الإصلاح المالي بحاجة الى خمس سنوات من العمل المستمر لتصحيح المسار.
تمويل العجز الحقيقي
ثاني أولوية في البرنامج الحكومي المُقَر في البرلمان كانت “اعداد مشروع قانون موازنة استثنائي يعمل به حال اقراره من قبل مجلس النواب ويهدف الى التعامل مع الأزمة الاقتصادية الحالية، وتداعيات انهيار اسعار النفط”، لكن الحكومة لم تعمل على اعداد الموازنة لأنها رأت بأن تقديم قانون الموازنة سوف لن يكون مجديا، والأفضل ان تعمل حسب موازنة 2019 وتصرف 1/12 حسب المتعارف عليه. واتجهت نحو الاقتراض لتمويل العجز المالي لتسديد الرواتب، فقدمت مشروع قانون الاقتراض الداخلي والخارجي الذي اقره البرلمان.
وبعد ان استنفذت الحكومة الأموال المخصصة في قانون الإقراض عادت الى مجلس النواب لتطلب تمويلا جديدا. مما دفع مجلس النواب للتساؤل عما فعلته الحكومة حيال ما وعدت به وألزمت نفسها أمام البرلمان بتقليل المصاريف وزيادة الإيرادات لسد العجز للحيلولة دون الذهاب الى الاقتراض من جديد أو اللجوء الى احتياطي البنك المركزي العراقي وتساؤل البرلمان هنا مشروع وبحاجة الى إجابة حكومية مقنعة.
توجهت الحكومات في السابق نحو الخيار الاسهل وهو خيار الاقتراض من الداخل والخارج، لذا نرى ان الموازنة مثقلة بتسديد الديون وفوائدها، ومشروع الموازنة المعدة لسنة 2020 يتضمن عشرة تريليون دينار لتسديد القروض والفوائد. وسوف تحذو هذه الحكومة حذو الاخرين وتقدم مشروع موازنة تتضمن عجزا فعليا بحدود 22 تريليون دينار جديدة، كما جاء في مسودة القانون لأنها تعلم ان البرلمان لن يصوت على مشروع قانون جديد للقروض، لكنه سيصوت لمشروع موازنة. وأن الموازنة سوف تتضمن فرصا كثيرة لتمرير ما يريده النواب من درجات وظيفية وتمويل لمشاريع تهم محافظاتهم وغيرها من الدوافع، لكن بالرغم من ذلك، فان البرلمان ليس لديه خيار آخر غير إقرار الموازنة (وتمويل الحكومة لسد العجز) كون الحكومة عاجزة عن دفع الرواتب في نهاية هذا الشهر وفي حال رفض البرلمان فان النظام الحالي برمته سيكون عرضة للانهيار.
الحكومة تعلم انها لديها مصاريف شهرية بما يقارب سبعة مليارات دولار يقابلها دخل شهري من المبيعات النفطية بحدود ثلاثة مليارات دولار، أي أن العجز الشهري يقارب أربعة مليارات دولار. في الوقت الذي اصبحت فيه الوزارات اجمعها عالة على الموازنة الحكومية ولا تساهم إلا بالنزر اليسير من تحقيق الحد الأدنى للإيرادات، برغم أن معظمها لديه إمكانية زيادة الإيرادات الشهرية بشتى الوسائل وضمن القانون.
لهذا السبب على رئيس مجلس الوزراء أن يضغط على كل وزير في حكومته للمساهمة في سد العجز من خلال تحديد اهداف معينة لكل منهم خلال الأشهر القادمة لتقليل المصروفات وزيادة الإيرادات، علما ان بعض الوزارات مثل الاتصالات والصناعة والكهرباء والزراعة والمالية بإمكانهم دعم إيرادات الدولة بعشرات المليارات من الدولارات سنويا لو عملت طبقا لبرنامج متقن ومحدد.
ورقة الإصلاح الإقتصادي
اتخذت الحكومة على عاتقها اعداد الورقة الإصلاحية للإقتصاد مرتين، المرة الأولى جاءت ضمن البرنامج الحكومي وما تضمنه من خطوات إصلاحية، والثانية ما ألزمت به نفسها ضمن مشروع قانون الاقتراض الداخلي والخارجي، ويرى مراقبون ان الحكومة عجزت لحد الان من المضي بخطوات الإصلاح على النحو المطلوب.
أخذ وزير المالية على عاتقه إعداد ورقة الإصلاح نيابة عن حكومته، وواجه مجلس النواب في ذلك، لكنه اعترف بأن البرنامج الإصلاحي لن يكون سهلا حيث قال “برنامج الاصلاح الاقتصادي بحاجة لوقت طويل لأن الوضع الاقتصادي في العراق يمر بحرج جراء تداعيات سياسات اقتصادية تراكمية سابقة”. وأضاف بأن الإصلاح بعد إقرار الورقة “بحاجة الى خمس سنوات” من العمل المتواصل والحثيث.
ما لم يتحدث به احد أن الورقة الإصلاحية ستواجه عقبات كبيرة داخل الحكومة ومجلس النواب معا، حيث تتضمن إجراءات قاسية لوقف هدر المال العام، وهذه الإجراءات والإصلاحات ستقف بالضد من مسعى القوى السياسية الحاكمة للحفاظ على مكاسبها خلال لانتخابات المرتقبة. فضلا على قطع طرق التمويل غير المشروع الذي تحصل عليه عبر الإستحواذ على مصادر المال العام في الوزارات والمؤسسات الحكومية العاملة.
لذلك فأن ولادة ورقة الاصلاح ستأتي في غرفة الإنعاش والتي ستدفع المتضررين منها الى قطع اسلاك الاوكسجين عنها لوأدها سريريا، ولهذا ليس أمام الحكومة ان أرادت تحقيق الإصلاح قولا وفعلا سوى الدفاع عن جدية منهجها وصدق توجهها، وإصرار رئيس مجلس الوزراء على تنفيذ بنود هذه الورقة أيا كانت العوائق التي ستعترض طريقها، حتى وأن استلزم الأمر الصِدام والتقاطع مع القوى الحاكمة للمشهد السياسي والمتحكمة بالقطاع الإقتصادي. وبخلافه فأن اي قول آخر لا يعد سوى مجرد ثرثرة وهواء في شبك ليس إلا.
جدير بالذكر ان السيولة النقدية التي سوف يوفرها قانون الموازنة لن تغطي سوى أربعة اشهر، ما يعني اننا سنكون امام واقع أكثر حراجة خلال السنة القادمة، اذا ما لم تعمل الحكومة على إيجاد طرق جديدة لتمويل العجز وزيادة الإيرادات غير النفطية.
لا شك ان الوضع الاقتصادي العراقي في تدهور مستمر، وسط نزيف مالي حاد وهدر إقتصادي أكثر حدة بسبب زيادة الانفاق الحكومي غير الموجه والمسيطر عليه وعلى نحو غير مسبوق وسط ضعف وقلة الواردات، بالإضافة الى الفشل الحكومي المتعاقب في استقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال المحلية والأجنبية على حد سواء، وخلق بيئة اقتصادية اشجع على تنمية وتطوير سوق العمل والإنتاج.
والملاحظ أن الحكومات المتعاقبة لجأت الى الحلول الترقيعية وإتباع أسهل وأقصر الطرق عبر الاقتراض على حساب الأجيال القادمة ورهن مستقبل البلاد بديون باتت تقض مضاجع أي استقرار منشود قد يلوح بالأفق، واذا استمر الحال كما هو عليه فإن موازنة سنة 2021 ستكون مثقلة بالتأكيد بديون والتزامات لا حصر لها لتضعنا على حافية إنهيار الإقتصاد تماما وبلوغ نقطة اللاعودة، لذا يجب على قادة البلاد وساستها إدراك أن حاضر العراق ومستقبله بيدهم الآن، لكنهم قد يقفون موقف المتفرج الذي لاحول له ولا قوة عندما يفقدون زمام المبادأة والمبادرة. أن جرس الإنذار يدق بكل قوته هذه المرة، فهل من مستمع؟
اترك رد