خلاف المنهجيات المحافظة والإصلاحية والثورية في الحوزة العلمية

0 189

د. علي المؤمن

الخلاف الإجتماعي أو السياسي أو السلوكي بين الفقهاء والمرجعيات الدينية أمر طبيعي ومتعارف ومقبول؛ شأنه شأن أي خلاف إنساني؛ شرط أن لا يتسبب في انشقاق الواقع الشيعي وتشرذمه؛ أي أن يبقى محصوراً في حدود الدوائر الحوزوية ذات العلاقة؛ بل أن من أكبر الكوارث أن يتم الإحتكام الى الشارع المتدين أو جمهور المقلدين والأنصار؛ ليحولها المنفعلون والجهلاء الى معارك، كما حصل في فترات زمنية سابقة ولاحقة، ومنها الخلافات بين الإخباريين والأصوليين في كربلاء وإصفهان والنجف طوال قرن وأكثر، والخلافات بين أنصار المشروطة والمستبدة في طهران والنجف في أوائل القرن العشرين، و الخلاف بين الخالصيين وأنصار مرجعية النجف في الكاظمية في خمسينات و أوائل ستينات القرن الماضي، والخلافات بين الشيرازيين وأنصار المرجعية النجفية في كربلاء والكويت والبحرين وقم طيلة ستة عقود، والخلاف بين أنصار السيد الشريعتمداري وأنصار الثورة الإسلامية؛ لاسيما في تبريز وقم في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ثم بين أنصار الشيخ المنتظري وأنصار المرجعية العامة في قم و إصفهان، أو بين أنصار السيد محمد حسين فضل الله وأنصار بعض مرجعيات النجف وقم في الفترة نفسها، وكذلك الخلاف في النجف وغيرها بين أنصار السيد محمد الصدر وأنصار بعض مرجعيات النجف في تسعينات القرن الماضي، ثم امتدادها الى مرحلة ما بعد سقوط النظام البعثي في العام ٢٠٠٣.

هذه الخلافات؛ الصحية أحياناً؛ كونها تحرك الركود والجمود؛ كان يمكن أن تمر بشكل طبيعي، ككل الخلافات المتعارفة الأخرى بين الفقهاء والمراجع في المسائل الفقهية وفي تشخيص المصالح والمفاسد؛ فيما لو تمت إدارتها إدارة حكيمة، ولم تستثمرها جماعات الضغط والمصالح الداخلية؛ كمادة دسمة تعتاش عليها، ولم تنزل الى الشارع وتتحول الى فتنة إجتماعية، و لم يسمح للخصوم الخارجيين باستغلالها وتأجيجها بهدف تضعيف الحوزة والمذهب والطائفة.

بيد أن الجانب المهم في هذا اللون من الخلافات؛ هو أنه لايؤثر في الأبعاد العلمية وأحجام النفوذ الديني للفقهاء والمراجع المعترف باجتهادهم ومرجعياتهم حوزوياً، و لا يكرس توصيف بعضها خطاً عاماً والآخر خطاً خاصاً، كما فصّلنا في الحلقة السابقة؛ أي أنها لا تشبه الخلاف بين المرجعيات التي تمثل الخط العام، و الخطوط الدينية العرَضية الخاصة التي لايعترف الرأي العام الحوزوي باجتهاد أصحابها ومرجعياتهم.

وهناك أمثلة قريبة تاريخياً بشأن الخلاف الصحي المتعارف بين المرجعيات في الموضوعات الفقهية والنظرة الى الشأن العام. ومن أهمها ظاهرة الثنائية بين مرجعية السيد محسن الحكيم الإصلاحية ومرجعية السيد الخوئي المحافظة في خمسينات و ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، والتي استطاع خلالها السيد محمد باقر الصدر إيجاد منهجية ثالثة فاعلة؛ لكنها لم منظورة حينها؛ إذ ظلت تتمظهر – غالباً – في الفعاليات والنشاطات المحسوبة على مرجعية السيد الحكيم وجماعة العلماء في النجف الأشرف وكلية الفقة. أي أن واقع الاجتماع الديني النجفي أصبح ينقسم في عقد الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي إلى ثلاث منهجيات رئيسة:

1 – المنهجية الوسطية الإصلاحية المتمثلة في مرجعية السيد محسن الحكيم، وقاعدتها: ولاية فقيه واسعة في الأمور الحسبية و رعاية النظام العام، وسمتها التطبيقية: إصلاح شامل في الأمة وإصلاح مقيد في السلطة. ومن الفقهاء المتماهين مع هذه المنهجية في النجف: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ مرتضى آل ياسين والشيخ محمد أمين زين الدين والشيخ محمد رضا المظفر والسيد عبد الله الشيرازي، وحالياً السيد علي السيستاني. وتماثلها في قم مرجعيات السيد محمد رضا الگلپايگاني والسيد كاظم الشريعتمداري والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي. وهي منهجية متأثرة بمدرسة الشيخ الأخوند الخراساني والشيخ فتح الله الإصفهاني والشيخ الميرزا النائيني والسيد أبي الحسن الإصفهاني.

2 – المنهجية التقليدية المحافظة المتمثلة في مرجعية السيد أبي القاسم الخوئي، وقاعدتها: ولاية فقيه محدودة في الأمور الحسبية، وسمتها التطبيقية: إصلاح تقليدي في الأمة وانكفاء في موضوعة السلطة. وهي متأثرة بمدرسة السيد كاظم اليزدي والشيخ ضياء الدين العراقي. ومن المتماهين مع هذه المنهجية في النجف: مرجعيتا السيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمود الشاهرودي. وتماثلهما في قم مرجعيتا الشيخ عبد الكريم الحائري والسيد حسين البروجردي سابقاً، والشيخ حسين الوحيد الخراساني حالياً.

3 – المنهجية التغييرية الثورية المتمثلة في الفقيه الشاب السيد محمد باقر الصدر، وقاعدتها: ولاية فقيه عامة ورعاية مطلقة للشأن العام، وسمتها التطبيقية: إصلاح شامل في الأمة وتحول جذري في السلطة وإنخراط في العمل التغييري الثوري. أما في قم فإن هذه المنهجية أسسها الإمام الخميني. و أبرز المراجع المتماهين مع هذه المنهجية هم تلاميذ السيد الشهيد الصدر والإمام الخميني، ولا سيما السيد محمد الصدر والسيد محمود الهاشمي والسيد كاظم الحائري و الشيخ حسين علي المنتظري والسيد علي الخامنئي والشيخ جعفر السبحاني والشيخ فاضل اللنكراني. فضلاً عن مراجع آخرين أحياء تتلمذوا في مدرسة السيد حسين البروجردي؛ لكنهم خالفوا أستاذهم في مسألة ولاية الفقيه العامة؛ فقالوا بها وانخراطوا في الحراك الثوري التغييري الذي قاده الإمام الخميني؛ كالشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والشيخ لطف الله الصافي الگلپایگاني؛ برغم أنهم ليسوا من تلاميذ الإمام الخميني.

والملاحظ في النجف في ستينات القرن الماضي، أن المنهجيات الفقهية والتطبيقية المتفاوتة الثلاث، و المتمثلة في السيد محسن الحكيم والسيد أبي القاسم الخوئي والسيد محمد باقر الصدر، كانت تتبادل الحماية والدعم والتأييد. وحصل الأمر نفسه في أوائل عقد الستينات من القرن الماضي؛ حين مارست مرجعيات قم المحافظة والإصلاحية دور الحماية لمرجعية الإمام الخميني التغييرية الثورية.

وقد يرى بعض المراقبين مفارقة في هذا المجال؛ فكيف يدعم التيار الديني التقليدي المحافظ تياراً إصلاحياً وآخر ثورياً، أو العكس؟!. لكن من يعرف قواعد تفكير المرجعية العليا التي تمثل الخط العام، وأساليب حركتها؛ سيدرك بأن هذه المرجعية تمارس – عادة – دور الأبوة لكل التيارات والوجودات في الوسط الشيعي، وتعمل على حمايتها وعدم التفريط بها، وشدها إليها بهدوء وصبر؛ للحؤول دون انكفائها خارج المنظومة الدينية الشيعية؛ سواء كانت المرجعية العامة نفسها ثورية أو إصلاحية أو محافظة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك رد