د. علي المؤمن
في الضلع الثالث لمثلث الصعود الشيعي المستهدَف؛ يبرز شيعة لبنان، بانجازاتهم الكبيرة على مختلف المستويات، ولا سيما تكريس حالة التحدي لكبرياء الكيان الإسرائيلي؛ الذي ظل طيلة سبعين عاماً يكبد أنظمة المنطقة وجيوشها أقسى الهزائم، ويذيقها يومياً مرارة الإذلال والتركيع. فضلاً عن تمكّن شيعة لبنان من تجاوز مئات السنين من حالات القمع والتهميش والإقصاء السياسي والاجتماعي والثقافي والإقتصادي، وتحولوا الى شريك حقيقي في إدارة الدولة اللبنانية ونظامها السياسي. وبذلك كان الصعود الشيعي اللبناني يرتكز على ثلاث قواعد رئيسة:
1- التنمية البشرية الهائلة التي تبلورت منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. فبات المجتمع الشيعي مليئاً بالسياسيين الناضجين، والإعلاميين المحترفين، وأصحال رؤوس الأموال، وحملة الشهادات العليا، الى جانب مئات المؤسسات السياسية والفكرية والدينية والتعليمية والإقتصادية والخدمية والإعلامية والفنية. وهو واقع لم يسبق لشيعة لبنان أن تمتعوا به خلال الألف عام الماضية.
2- تحقيق حالة توازن الرعب مع الكيان الصهيوني، على المستوى التكتيكي والستراتيجي، بما في ذلك التوازن البشري والتسليحي والمخابراتي والإعلامي، والانتصارات الميدانية المتفردة، ولا سيما في العامين 2000 و2006. وهو ما لم تستطيع جيوش الدول العربية تحقيقه مجتمعة. ولم يكن هذا التفوق مفارقاً لحقيقة الإنتماء الايديولوجي لشيعة لبنان، والذي عبّر عنه الزعيم الشيعي اللبناني السيد حسن نصر الله بقوله مخاطباً قادة إسرائيل في العام 2006: (( أنتم لاتعرفون من تقاتلون .. أنتم تقاتلون أبناء علي والحسين))، وهو بذلك يريد لفت الانتباه الى الفارق بين قتال العدو تحت راية الشعارات الوطنية والقومية والإشتراكية، والقتال تحت راية علي بن أبي طالب والحسين بن علي.
3- تحقيق حالة الشراكة الحقيقية في الدولة والحكومة، فبعد أن كان الشيعي موضع تهكم في الوسط السياسي الإجتماعي اللبناني، بأنه مجرد شوفير (سائق تكسي) وناطور (حارس) أو شرطي في أحسن الأحوال، فإنه بات شريكاً حقيقياً في قرار الحكومة والدولة اللبنانية، شأنه شأن المسيحي والسني. ولم تتحقق هذه الشراكة من خلال آلية ديمقراطية تلقائية، وإن كان هذا هو ظاهر القضية، ولكنها تحققت عبر فرض الشيعة واقعهم الجديد. صحيح أن شيعة لبنان لم يحققوا بعد حضورهم السياسي المطلوب في مفاصل الحكومة والدولة، بما يتناسب ونسبتهم العددية ( نسبتهم السكانية 45 بالمائة من نفوس الشعب اللبناني، ويحظون بـ 25 بالمائة فقط من مناصب الدولة)، إلّا أن ماحققوه حتى الآن يعد إنجازاً إعجازياً.
وليس خافياً على أحد أن هذه الإنجازات لم تكن تتحقق لولا الدعم الإيراني المباشر لشيعة لبنان على كل المستويات، وهو دعم يجده شيعة لبنان مصيرياً، ومن شأنه موازنة الاستهداف الإسرائيلي للشيعة، والدعم السعودي الخليجي لسنة لبنان، والدعم الفرنسي الأمريكي للمسيحيين.
ولن يكشف المسؤولون الإسرائيليون والأمريكان سراً حين يقولون بأن المحور الإيراني، ظل يمنع سقوط القضية الفلسطينية في شباك التسويات والصفقات المحلية والإسرائيلية والإقليمية والدولية، وأن الحائل الإيراني المعبأ بالحراك السياسي والدبلوماسي والمخابراتي والمالي والتسليحي والإعلامي منذ العام 1979، كبح جماح إسرائيل، وسلبها حلم التمدد، وابتلاع باقي فلسطين، وكامل لبنان، وجزء من سوريا والأردن، والهيمنة على القرار الأمني في الشرق الأوسط، والنفوذ بقوة في المنطقة العربية. وقد كان هذا هو ملخص الخطة الستراتيجية الإسرائيلية التي وضعتها اللوبي الصهيوني العالمي بعد العام 1973.
وبرغم أن الصبغة المذهبية للقضية الفلسطينية ليست شيعية، إلّا أن نجاح محور المقاومة في مشاغلة إسرائيل، ودفعها للإنكفاء، وحصر الصراع ـ غالباً ـ في الداخل الإسرائيلي، ظل يشكل حماية أساسية لأمن المنطقة العربية عموماً، وأمن سوريا وشيعة لبنان خصوصاً.
كما مثّل نجاح المحور الإيراني في منع سقوط سوريا بيد قوى التطرف و التكفير، عاملاً أساسياً ومركزياً في القضاء على أبرز تهديد يستهدف الواقع الشيعي في العراق وسوريا؛ فقد كان من شأن سقوط سوريا، تدمير كثير مما حققه شيعة العراق ولبنان بعد العام 2003، ويتحول الى تهديد مستمر ومتفاقم لهم، بل لعله التهديد الستراتيجي المباشر الثاني للواقع الشيعي بعد الحرب الصدامية في الثمانينات. وهذا هو الدافع الحقيقي لرمي إيران بكل ثقلها لمنع سقوط نظام بشار الأسد، وليس دفاعاً عن المنظومة الحزبية والمخابراتية الحاكمة في سوريا. وبذلك، يعد نجاح المحور الشيعي المقاوم في سوريا، الإنجاز الشيعي التاريخي الرابع الأكبر خلال الأربعين عاماً الماضية، بعد إنجاز العام 1979 في إيران، وإنجاز العام 1982 في لبنان، وإنجاز العام 2003 في العراق. وإذا ما أضفنا الصعود اليمني بعد العام 2014، فإن عصر الشيعة يكون قد وقف على خمس قواعد (كونكريتية) صلبة، يصعب زحزحتها.
لقد بات الإنجاز الإيراني ـ العراقي ـ اللبناني ـ السوري ـ اليمني المتراكم والمتنامي، يكرس عقدة التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي، والمتمثلة في شل قدرة هذا التحالف على ضرب ذلك الإنجاز وإيقاف تصاعده، برغم تشديد كل أنواع الحصار، والتآمر السياسي، وضخ المال المعادي، والأعمال العسكرية، والتشويه الإعلامي، ومحاربة الانسان الشيعي في سبل عيشه (وسنوضح في القسم القادم تفاصيل محاولات العزل والتفرد والحصار).