مآلات (الحديبية) الإيرانية السعودية

0 60

د. علي المؤمن

   ابتداء؛ ليس القصد من استعارة مصطلح (الحديبية) لتوصيف الصلح الجديد الجاري بين الكيان السعودي وايران، أنّ أحد طرفي الصلح كافرٌ أو مشرك، وأن الطرف الآخر يمثل الإسلام حصراً؛ فكلاهما مسلم وفق المعايير الشرعية العامة، وإن كانت هناك ملاحظات جوهرية على إسلام الفرقة الوهابية السعودية، وعلى شرعية سيطرتها على أغلب أراضي الجزيرة العربية، وتأسيس كيان مفتعل باسم جد الأسرة، إنّما القصد هو أن طرفي الصلح (الإيراني والسعودي) يمثلان ايديولوجيتين متعارضتين وجودياً، إحداهما تنتمي الى التشيع بصيغته النهضوية الحديثة، والأخرى تنتمي الى العقيدة الأُموية بصيغتها التيمية الوهابية القتالية التكفيرية، وهو ما يجعلهما في حالة صراعنفوذ ايديولوجي مستمر، وإن سَتَرته المصالح السياسية أحياناً، واضطرا تحت ضغوطات داخلية آنية أن يلتقيا ويتصالحا؛ فالصراع سيبقى قائماً، حتى ينهار أحدهما ويسقط ويتلاشى، أي أنهما لا يمكن أن يستمرا متصالحين ومتفقين. ويمكن مراجعة مسار علاقاتهما من العام 1979 وحتى الآن، للتأكد من هذه الحقيقة.

   والهدنة أو الصلح أو عودة العلاقة الدبلوماسية بين الكيان السعودي والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لاتعني تغيير الأفكار والمواقف الأصلية بالنسبة للطرفين، ولاتعني التحالف أو الصداقة الحقيقية، رغم الشعارات الاستهلاكية التي يرفعها الطرفان، كما لاينعكس صلحهما على مواقف حلفائهما وأصدقائهما، بل يعني الصلح فك الاشتباك الجزئي، والوقف الظاهري للحروب الخشنة، واستمرار الحرب الباردة في الوقت نفسه، لأن الطرفين متعارضان في الشكل والجوهر والامتدادات، وهو ما كان عليه واقع صلح (الحديبية) بين رسول الله ومشركي قريش.

   لقد كان رسول الله يعي أن قريشاً جماعة ضالة.. لاعهد لها ولاذمة، لكنه أبرم معها صلح (الحديبية)، من أجل جلب مصالح واقعية للمسلمين ودرء المفاسد عنهم. وبما أنّ قريشاً ظلت تضمر الحقد والنوايا السيئة والتآمر على الرسول ودينه؛ فإنها سرعان ما كشفت عن ذلك عاجلاً، ما أدى الى انهيار الصلح، لأنه لايمكن أن يكون صلحاً ستراتيجيّاً مستداماً، بل مجرد استراحة محارب جزئية للطرفين. وقد ظلت حالة الصلح الهش والحرب الكامنة، قائمة في كل زمان ومكان بين جماعة قريش وجماعة المؤمنين، لأن هدف قريش كان وسيبقى البطش بجماعة المؤمنين والقضاء عليها، وهو ما تدركه جماعة المؤمنين، وتتصرف وفقه، دون غفلة واستغفال.

   صحيح أنّ نار المعارك بين الطرفين انطفأت في بعض الساحات، ولاسيما الحروب والغزوات، لكن الصلح لم يستمر، وعادت المعارك عاجلاً، ربما بإيقاع أقوى وأسرع، ولم تنته دوامة الحرب والسلام، إلّا بزوال أحد الطرفين، وهو ما حصل بالفعل حين انهارت قريش وحلفاؤها، ودخل المسلمون مكة فاتحين.

   هذا ليس خطاباً ايديولوجياً متشائماً، أو دعوى تبشيرية، إنّما خطاب واقعي، ينطلق من قراءة حفرية لمسار الصراعات الوهابية السعودية مع شيعة المنطقة، منذ هجماتهم الوحشية الدموية على العراق في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي وما بعده، ولاسيما على كربلاء والنجف، وحتى هجماتهم الحالية على العراق وايران ولبنان وسوريا واليمن.

   و(الحديبية) الحالية بين ايران والسعودية، هي الثالثة خلال العقود الأربعة الماضية، وهي مجرد مصالحات سياسية بين حكومتين، تنطلق من حاجات داخلية لطرفين يعيشان أزمات ضاغطة: اقتصادية ايرانية، وأمنية سعودية، ولم تتضمن هذه المصالحات يوماً، ولن تتضمن، سلاماً بين ايديولوجيتي الدولتين، أو هدنة بين عقيدتيهما. وحتى لو وصل الصلح السياسي الحالي الى ذروة تألقه، كما كان على عهد الرئيسين رفسنجاني وخاتمي، إلّا أنّ الحرب الباردة ستستمر بين الطرفين، بالترافق مع استمرار الصراع العقدي التقليدي بين الشيعة والوهابية.

   والأهم من كل ذلك؛ فإن اتفاق الصلح الجديد سيفشل خلال سنوات، وسرعان ما ستعود الأمور الى ما كانت عليه، لأن التعارض الايديولوجي العميق ومساحات الاحتكاك المباشرة المصيرية بينهما، يشعله عود كبريت، ولاتحلّه الترقيعات السياسية والحاجات الزمنية. ولا أطرح هذا التوقع رجماً بالغيب أو بناءً على موقف سلبي تشاؤمي مسبق من الصلح، بل اعتماداً على معطيات شديدة التجلي قائمة على الأرض. ويمكن تشبيه (حديبيات) إيران والسعودية بالاتفاقيات الملغومة التي كانت تتجدد باستمرار بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وخاصة خلال حكمي خروشوف وبريجينيف. أما الهدنة الايديولوجية الحقيقية التي أعلنها “غورباتشوف” مع الولايات المتحدة؛ فإنها أدت تلقائياً الى انهيار الاتحاد السوفيني بدعم ايديولوجي أمريكي.

   ولعل هناك من يقول بأن العلاقات بين الدول تقوم على قاعدة المصالح وليس الايديولوجيا، أقول: نعم؛ يصح ذلك مع الدول التي لا تقوم على أصل ايديولوجي، أما الدول التي تقوم على أصل ايديولوجي ضاغط؛ فهي تختلف عن غيرها في صياغة علاقاتها الخارجية؛ إذ يحرك علاقاتها الخارجية عاملان متعاضدان: عامل المصالح + عامل الايديولوجيا، وليس المصالح وحدها؛ فهذه الدول، أمثال: بريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية والسعودية واسرائيل والصين وكوبا وايران، لن تتخلى عن ايديولوجياتها إطلاقاً، حتى وإن أظهرت المرونة والبراغماتية في علاقاتها الخارجية وسلوكها الداخلي، لأن أنظمتها ستنهار بمجرد تخليها عن ايديولوجيتها ومؤسستها العقدية التي تقوم عليها الدولة، سواء تمثلت هذه الايديولوجيا في منظومة حكم أو منظومة حزبية أو عقيدة مادية أو عقيدة دينية أو عقيدة عنصرية، وهو ما فعله غورباتشوف عندما تسبب في انهيار الاتحاد السوفيتيكما ذكرنا، حين جرّد الاتحاد السوفيتي من قوام وجوده، وإعاد بناء الدولة على قواعد مختلفة، ما أدى الى انهياره، وهو ما سيحدث مع ايران والسعودية والصين وأمريكا وأمثالها، فيما لو تنازلت عن عقيدتها، وجرّدت نظامها السياسي وعلاقاتها الخارجية منها.

   العامل الآخر الذي ظل يؤدي منذ العام 1979 وحتى الآن الى انهيار الصلح أو العلاقات الطبيعية بين السعودية وايران، هو أنّ مساحة حراكهما ونفوذهما خارج الحدود، هي مساحة واحدة تقريباً، والاحتكاكات فيها بين الطرفين لايمكن أن تتوقف، فضلا عن أنّ هذه الاحتكاكات، لاترتبط كلها بإيران والسعودية الحاليتين، بل هي قديمة، وسابقة على نشوء الصراع بين إيران والسعودية، وحيال ذلك؛ سيضطر الطرفان الى الدفاع عن مصالح حلفائهما المتصارعين أيضاً، حتى قبل نشوء مملكة آل سعود وجمهورية الإمام الخميني.

   ويرى بعض المراقبين أن السعودية ربما ستعمل بعد الصلح على اختراق المجتمع الإيراني، وشراء بعض الشخصيات والشرائح، ولعب دور تخريبي داخلي، عبر ضخ مليارات الدولارات، كما فعلت ولاتزال تفعل في العراق ولبنان ومصر والبحرين. لكن قراءة الواقع بشكل دقيق،يقود الى عكس هذا الرأي؛ إذ أنّ حصول اختراق مخابراتي وعقدي وهابي سعودي ملموس في ايران، يكاد يكون مستحيلاً، لأن إيران محصنة نسبياً، بوجود دولة مركزية، وقرار حكومي موحّد، وأجهزة أمنية قوية، وأحزاب تخضع للمحاسبة، وأعضاء سفارات تتم مراقبتهم بدقة. كما أن عقد لقاءات بين المواطنين والمسؤولين الإيرانيين والأحزاب والمؤسسات الحكومية والأهلية الإيرانية من جهة، وسفارات الدول الأجنبية من جهة أخرى، يتم فقط عبر وزارة الخارجية وبرقابة أمنية، ويضاف اليه، أن لقاءات الأشخاص العاديين وكذا الشخصيات السياسية والدينية والاجتماعية والعلمية الإيرانية، بالمسؤولين الأجانب في بلدانهم، ممنوع بتاتاً، إلّا بمهمة رسمية من الدولة أو بإذن الجهات المعنية، وبخلافه يتعرض الشخص الى العقوبة.

   ولذلك؛ فإن المليارات السعودية المسربة الى ايران منذ ٤٠ عاماً، لشراء ذمم الشخصيات والاشخاص والجماعات الايرانية، ومعها الأسلحة والكتب الوهابية؛ تصل عادة الى يد الأجهزة الايرانية المعنيةالرسمية بلعبة مخابراتية روتينية، لأن فرق الخبرة والتقنيات بين السعودية وايران كبير في هذا المجال. صحيح أن السعودية نجحت في فترات زمنية معينة، نجاحات محدودة في اختراق المجتمع السني البلوشي اختراقاً ايديولوجياً، وكذا المجتمع العربي الخوزستاني، إلّاأنّ هذه الاختراقات المحدودة سرعان ما انتهت وانهارت. أما الاختراقات المخابراتية الملموسة التي تحصل في ايران أحياناً؛ فإنّها تتم من خلال تقنيات معقدة جداً، لا تقدر عليها سوى امريكا واسرائيل.

   ولذلك؛ فإنّ (الحديبيات) الإيرانية السعودية لا تعني الغفلة عما يضمره ويعلنه الخصم المتآمر، الذي لايكف عن محاولات الهجوم والانقضاض على بلدان المنطقة وشعوبها، ولاسيما أتباع أهل البيت، كما لاتعني إسقاط التكليف الشرعي والإنساني في مواصلة تعرية الكيان الوهابي السعودي وكشف جرائمه وممارساته، ودفع تمدده وتأثيراته، ولاسيما في الساحات التي ستظل تعاني من عدوانه، وفي المقدمة المنطقة الشرقية من السعودية، ثم اليمن والعراق، ثم لبنان وسوريا وايران. وفي هذه المجال يكشف الإمام علي عن معادلة ستراتيجية بقوله: ((الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك. ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل)).

اترك رد