بقلم محمد الكعبي
الأمراض الجسدية تنتقل من شخص لآخر بسبب الوسط الناقل الذي ينتقل من خلاله المرض وكذلك الأمراض النفسية فهي تنتقل ايضاً من المرضى إلى الأصحاء لعدة أسباب صنّفها علم الطب النفسي وهناك شيء آخر وبنفس الأسلوب تنتقل الافكار من الاصحاء إلى المرضى ومن المرضى إلى الاصحاء، لكن الانتقال الاول ايجابي وحالة صحية، بينما الخطورة تكمن في النوع الثاني السلبي من حيث انتقال عدوى الأفكار المريضة والتي تأخذ مأخذها من الانسان ولن تتركه الا صريعا.
فالانسان وبسبب ظروف وراثية و اجتماعية وبيئية ودينية، قد يلتقط أفكاراً معينة و يؤمن بها ويقدسها ويدافع عنها ويتعصب لها دون ان يكتشف انها إفكار مسمومة و مريضة أم انها افكار إيجابية صحيحة؟ لا يعلم هل تبنيه أم تحطمه؟ مفيدة أم ضارة؟ لأنها خفية لاتظهر ولايمكن ملاحظتها لأكثر الناس، وتدخل بالتدريج وبهدوء بدون ضوضاء وبسلاسة، ولأن مستقبلها لايملك جهاز (كشف ) أو حدود تفتيش قبل استلامها، قد تكون المعدة اذكى من المخ احيانا لأنها تمتلك اجهزة تمكنها من كشف الطعام المسموم من خلال الآثار التي تظهر على الانسان من قبيل الألم أو الحمى أو الإغماء والقيء ، بينما لايملك الجهاز العقلي مثل هذه الامكانات ويفتقد المجتمع وجود مستشفى خاص لمعالجة الافكار ، وبإمكان آلاف الافكار الخاطئة والسلبية والهجينة أن تتسرب إلى الذهن لتكون جزءا منه وتشكّل قناعاته فتصبح مقدسة، عندها قد يرتكب الانسان أبشع الجرائم وهو يبتسم.
الفايروس عندما يتسلل إلى بيانات الحاسب الآلي يخرب نظامه ويكون جزءا منه ويشلّ عمله، فقد استخدم وسطاً ناقلا اسمه مدخل البيانات كذلك هو الانسان فقد يكتسب الفكرة بنفس الاسلوب وبنفس الطريقة وقد يكون الوسط الناقل الكتاب الذي يطالعه أو الدرس الذي يتلقاه و الذي يتم ادخال البيانات من خلاله لتشكل شخصية الانسان وتتحكم بعقله وتصرفاته، لذا ينبغي التحقق من الكتاب والكاتب وتاريخه وغاياته وسؤال أهل الخبرة والاختصاص ممن نثق بهم والا وقعنا بشباك الفكرة المبثوثة بالكتاب المسموم.
الانسان ومنذ زمن بعيد يستخدم طرق كثيرة لنقل الأفكار مثل المغالطة والكذب و الجدل والاحتيال والالتواء الفكري وتهجين الافكار وإلباسها ثوب جميل، وبعضها يدخل للإنسان عن طريق رغباته فتسجيب النفس وتنصاع لها، وعندها يقف العقل عن التفكير.
حتى طريقة التدريس في بلداننا تعتمد إسلوب التلقين وليس التفكير اذ ليس من حق الطالب ان يناقش أو يحلل وانما فقط يستقبل مايقوله المدرس وفق المنهج المحدد من قبل الجهات العليا، و بذلك تتربى أجيال على افكار خاطئة ومناهج منحرفة، وهذا يعد من أهم أسباب ضمور الفكر وابتعاده عن الابداع، ويقتل روح التحرر العلمي والتحقيق والمناقشة.
ومن أكثر المبادئ شيوعاً وانتشاراً في الوقت الحالي لترسيخ الافكار هو مبدأ دس السم بالعسل وهو كناية عن خلط الجيد بالرديء والكذب بالصدق، فهذا المبدأ يتناول فكرة تبدو صحيحة ظاهرياً إلا إنها مسمومة في واقع الأمر ويتم تسويقها بشكل جيد وتدريجي ومنسق وبطريقة سهلة، لإيهام المتلقي وجعله مؤمنا بما وصل اليه حتى تصبح اعتقادا مقدسا ، ويُسخّر لها مساحة واسعة وكبيرة في الاعلام ويبذل من أجلها الاموال الطائلة والجهود البشرية الكثيرة فقط من أجل إيصال الفكرة بالطريقة المطلوبة والتي تُقنع المتلقي تمام الاقناع ومنها الافكار الدينية والسياسية والتي تمثل محور الفكر الحالي فبمجرد طرح أي فكرة تتناول هذين الموضوعين يتم تناولها والترويج لها والإيمان بها وذلك لما تملكه من قابلية للنفوذ والإنتشار بين الناس, في حين إن كثيراً من الافكار الصالحة تفتقد إلى مسوّق جيد مما يجعلها مهملة مركونه لاقيمة لها .
ثاني طريقة لانتشار الأفكار هي نظرية العقل الجمعي فهي صورة تحاكي مرض عدوى الفكر، حيث يذوب فيها العقل التحليلي فضلا عن انصهار العقل الفردي بالجماعة ويتعطل ويذوب في موج الجماعة الهائج والذي لاينجو منه إلا الثلة القليلة من الناس، وخصوصا في ظل الاعلام والتطور الهائل في جميع الاتجاهات، وقد تكون بعض المراكز العلمية والمنظمات والهيئات وسائط ناقلة للافكار الهدامة، فعلينا التحكم بالافكار من خلال التحليل وتفكيك الفكرة وجمع مقدماتها والاحاطة بجوانبها و الاطلاع على أغلب حيثياتها مع مراجعة الفكرة ومعاكساتها ومخالِفاتها من الافكار والتأني والرجوع إلى أهل الاختصاص الأمناء الربانيين لأن الانسان أعجز من أن يحكم على جميع الافكار وخصوصاً تلك التي ليست من اختصاصه.
الإنسان الواعي عندما تأتيه الفكرة أو المعلومة مهما كانت ومن أي جهة كانت , يتريث ويصبر قبل قبولها أو رفضها و لا يكون إمّعة ينعق مع كل ناعق، ويدخلها في مختبر لتحليلها وقرائتها قراءة موضوعية بعيدة عن صخب الآخرين والنتائج المسبقة، ويجمع المعلومات حولها ولايكون طيّعا سهلا يقبل أي شيء ولا يكون جزء من القطيع , بل عليه ان يصنع الافكار ويبدع بها و يأخذها من عينها الصافية التي لا درن فيها , وأن يتحمل المسؤولية ويطلب العلم ويوسع معرفته وأن لا يغتر بالجموع المتفقة على افكار معينة حتى وأن كانت الجموع غفيرة حيث إن الكثرة ليست معياراً للحق ولا تملك الصلاحية لتحديده وهي غير مخولة أن تحدد أين نقف ومع من نكون وبماذا نؤمن، لذا نجد القرآن يذم الكثرة في كثير من المواقف بل حتى الديانات السماوية الاخرى كذلك . يقول تعالى ،{ وأكثرُهُم للحقّ كارهون}، {وإنْ تُطع أكثر مَنْ في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظَّنَّ وإن هُم إلا يَخرُصُونَ} { ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون} ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تذمُّ الكثرة، ومَدحَ القلة في مواطنِِ كثيرة ومنها {وقليلٌ مِن عِبادِيَ الشكُورُ}، {ثلةٌ منَ الأوّلِينَ وقليلُ مِنَ الآخِرينَ}، العقل نبي باطن يرشد إلى طريق الخير أذا أحسن الانسان إستخدامه وهيأ مقدماته الصحيحة , وبذا علينا أن نحافظ عليه ونبعد عنه السموم والملوثات ونطهره بمطهرات مستمرة من خلال صقله وتطويره ونفعّل العقل النقدي فيه ليكون قادراً على فلترة الأفكار وتصفيتها ويكون ذلك بالتأني والتدبر والنقاش والمراجعة والمتابعة ليكون قادراً على كشف الصالح من الطالح، وعلينا ان لا نتعامل بسطحية مع الافكار الواردة، وينبغي الدخول إلى لب الفكرة والتعمق فيها والبحث عن مصدرها والمراجعة وان لا نُسلّم لها مباشرة.
أترك قناعاتك السابقة وابدء من جديد ، احذر الإعلام وتأكد من المصادر التي تأخذ منها، كن متابعاً جيداً للاحداث ولا تاخذ المعلومة أو الفكرة متجزئة بل تأملها جيدا وراجعها وحللها وبذا ستقدح في ذهنك الكثير من الاسئلة والاشكالات الغير متوقعة ، وعليك أن تدرك بأن ليس كل ما يقوله كبار السن و الشخصيات الكبيرة صحيح بل هي تمثل قناعاتهم الشخصية بغض النظر عن كونها صحيحة أم خاطئة فالحق هو المعيار وليس الرجال(أعرف الحق تعرف أهله).
علينا ان لانقبل الفكرة المعلّبة والمستورة والجاهزة الا بعد إدخالها في مختبرات الوعي والتحليل وفحصها ولا ننجر خلف العواطف، ونحتاج إلى بصيرة وشجاعة لندخل الجميع للفحص المختبري، واعظم المختبرات هو القرآن الكريم الذي يزودنا بالنتيجة وعلى ضوئها نحدد من نقبل ومن نرفض لنستحق لقب انسان مفكر واعٍ.
المقال التالي